قبل أيام جمعني عشاء بشخصية أمريكية نافذة، وأخذت انصت له وهو يتحدث عن أمريكا اقتصادياً وسياسياً، كان حديثه شيقاً وتحليله عميقاً. استمر النقاش طويلاً أما أمريكا التي نعرف فيبدو أنها لم تعدّ موجودة بل تحولت إلى أمريكا التي لم نعرف أو التي لم نعتد عليها بعد؛ فقد تقلصت اقتصادياً وانكمشت بفعل حروبها الأخيرة أولاً والأزمة المالية الطاحنة التي سممت الاقتصاد ونخرته من أكثر المواقع إيلاماً : المساكن والرهون العقارية. شاهدنا جواهر العقار الأمريكي تترامى في المزادات بأبخس الأثمان دون أن تجد مشترياً، وحالياً نجد أن الانكماش والانكفاء الأمريكي ولد فراغاً؛ فبقدر ما كانت إدارة بوش الابن متحمسة للدخول في حروب مفتوحة كما حدث في العراق وأفغانستان انهكت الاقتصاد ودافع الضرائب هناك بقدر ما أن الادارة الحالية تتحاشى ذلك وتتفاداه، بل ان الرئيس أوباما صرح على رؤوس الأشهاد أنه لن يخوض حرباً اختيارية، ولم تجد تصريحاته تلك أي إعجاب من قبل اللوبي الصهيوني ولم يخف نتنياهو حنقه وغضبه. علينا أن نعيد اكتشاف علاقتنا مع امريكا التي تغيرت بعمق خلال السنوات العشر الماضية، فهي حالياً مهمومة باستعادة عنفوانها الاقتصادي وسط تهديد واضح من الاقتصادات الصاعدة التي أخذت تنهش من الاقتصاد الأمريكي المحلي على جبهتين : الوظائف مما يؤثر على مستويات البطالة، وعلى العديد من المنتجات المصنعة إذ يبدو أن الصين هي "المصنع" الأهم لاحتياجات المستهلكين في امريكا الشمالية، وبذلك تعاني امريكا من تصدير الوظائف واستيراد السلع والخدمات بوتائر اعلى من أي وقت مضى. قد يبدو ذلك طبيعياً في حقبة العولمة، لكن يبدو أن الانحسار الأمريكي لن يقتصر على الشأن الخارجي بل أن وتيرة التقشف العالية أخذت تزحف بالتدريج لكل مناحي الحياة الأمريكية؛ فالإدارة الأمريكية معنية بخفض الانفاق تجنباً ليس فقط للهاوية المالية بل لكل ما بقيت الخزانة الأمريكية تمثله لعقود متتابعة بكونها عنوانا للثراء اللامتناهي. تلك أيام ولت، فامريكا حالياً تتقشف في حين أن الصين تعيد بناء مدنها ببذخ يعكس الثراء الجديد وتستعرض قطعها الحربية وجبروتها الذي ما برح يتضخم مع كل مطلع شمس.