لجأ وزير الصحة السعودي الراحل د.غازي القصيبي إلى طريقة مفاجئة وصادمة لكل الموظفين في أول يوم عمل له بالوزارة، حينما طاف في جولة تفقدية على كل المكاتب بعد بداية الدوام الرسمي حاملا معه نحو 300 بطاقة شخصية تحمل اسمه، وفيها عبارة «حضرت بعد بداية الدوام بأكثر من ساعة ولم أجدك أرجو ألا يتكرر هذا التصرف»! وقد أحدثت هذه الجولة الخارجة عن المألوف في مجتمعاتنا وفي سائر دول العالم جلبة في أروقة الوزارة، وتناقلتها بعض وسائل الإعلام المحلية. الغريب ليس تصرف د.القصيبي الذي اشتهر بأعمال رمزية كهذه ليوصل رسالة للجميع بأن عهدا جديدا بدأ بتوليه زمام أمور وزارة، لكن العجيب أن أحد المسؤولين بدلا من أن يبرر تأخره قام بتقديم استقالته لأنه اعتبر تصرف الوزير «إهانة» شخصية له، والأغرب أن الوزير قبلها على الفور! ويقول القصيبي في كتابه «حياة في الإدارة»، أحد أروع الكتب العربية الحديثة، إنه «منذ ذلك اليوم إلى أن تركت الوزارة لا أعتقد أن موظفا واحدا تخلف عن العمل إلا لأسباب مشروعة»، على حد قوله. وربما لا نلوم الوزير على تصرفه لا سيما إذا علمنا أن دراسة لمعهد الإدارة العامة أعدها د.صلاح المعيوف ود.محمد المهنا، على العاملين بالقطاع العام، قد أظهرت أنه كلما زاد المستوى التعليمي للموظف السعودي زادت فرصة تأخره عن الدوام في العمل الحكومي. إذ يتأخر شهريا حملة الشهادات الثانوية وما دونها بمعدل 45 دقيقة تقريبا، بينما يتأخر حاملو الشهادات الجامعية بمعدل 59 دقيقة، أما حملة شهادات الماجستير والدكتوراه فنافسوا الآخرين بتأخرهم لمدة ساعة ونصف الساعة! وهذا الأمر لا يقتصر على السعوديين، فالتأخر عن الدوام مشكلة عربية ملحوظة. والسؤال هو: هل ما لجأ إليه د.القصيبي هو الحل الوحيد لعلاج عادات التأخر عن العمل المزمنة أم أن هناك بدائل أخرى؟ واقع الحال يقول إن العاملين في حقل الإدارة قد ابتكروا طرقا عديدة لضبط السلوك المتسيب تجنبا للملاسنة الكلامية اليومية بين المسؤولين ومرؤوسيهم، منها وضع نظام الساعات المرنة (Flex Hours) بحيث يأتي الموظف في الوقت الذي يناسبه إلى حد ساعة معينة صباحا شريطة أن يقضي إجمالي عدد الساعات المقررة يوميا. وهناك طريقة أخرى، وهي أن تنتقص ساعات التأخر ودقائقها من رصيد الاستئذانات الشهرية، أو رصيد الإجازات الطارئة والعرضية، أو ما يسمى بالPTO، فحينما يشعر الموظف بأنه سيحرم من امتيازات ما سيدفعه ذلك لوضع حد لتسيبه أو تراخيه في الحضور المبكر. وهناك طريقة أخرى مؤقتة اقترحتها على مدير يريد ضبط سلوك موظف صغير متمرد، وهي ببساطة عقد اجتماع يومي لكل أفراد الإدارة بعد ربع ساعة من بداية الدوام، فأسقط في يد الموظف فاضطر للانضباط! هذه كلها طرق لضبط السلوك الإنساني في الحضور والانصراف، غير أن حقيقة الأمر تؤكد أننا أمام بشر لا يمكن أن نحصر حكمنا عليهم بمدى التزامهم بالحضور والانصراف، لا سيما إذا ما كانوا عناصر منتجة وموهوبة وتتمتع بمهارات جيدة للمؤسسة التي نعمل فيها. وأرى أنه من غير المنطقي أن نعاقب من يتأخر لبضع دقائق بتقرير التأخير وننسى عطاءه وتفانيه، وذلك حتى لا يكون شغل الموظفين الشاغل موعد حضورهم، مثل تلك الفتاة الكويتية التي رأيتها تهرول مرتبكة نحو جهاز البصمة الحكومي خشية أن تلامس عقارب الساعة الثامنة صباحا!