جديرٌ بمثلِ هذا: «العنوان» الصّادمِ بادي الرأي استفتَاحُهُ بهذا السؤالِ: أيهما أشدُّ وطئاً على قلبِ: «صاحب الدعوةِ»: * نكوص المدعوّ عن قبول الدعوةِ إلى :»الإسلام» بالمطلقِ وامتناعهِ تالياً عن الدخولِ فيه؟ * أم هي: رؤيةُ صاحب الاحتسابِ ل»المنكرِ» وشيوعِ شيءٍ من مخالفاتٍ شرعيّةٍ مِن شأنها أنْ تشي بأنّ ثمّة تغيّراً قد طاولَ كثيراً من أحوالِ الإسلامِ والمسلمين؟! لعلّه ما مِن ريبٍ في أنّ الأولَ فيهما هو الأشدُّ وطئاً والأقومُ إيلاماً. وذلك: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا). وعطفاً على أنّ المقام هاهنا ليس بسطاً للاستفصالِ فحسبنا إذن -لمن كانت له آثارةٌ من فقهٍ وتقوى- بآيةِ سورة النساء، وذلك في شأنِ الإبانةِ عن أنّه ما ثمَّ مقارنةٌ يمكن لها أن تسوغ َ فيما بين تلك الحالتين اللتين تضمّنهما السؤال. ومع كلِّ هذا؛ فلا مناصَ من القول ثانيةً: إنه لا أحد ممن كانت له العنايةُ بفقهَ الوحيين كتاباً وصحيحَ َسنّةٍ -لا العنايةَ بمحضِ حفظهما وحسب- أنْ يستريبَ في أمر الفرق بين تلك الحالتين والتي لم تكن النصوص الشرعية غفلا عن تقرير ذلك. والشأن فيمن فقهَ الوحيين الإدراكُ بأنّ الله تعالى قد نهى نبيّهُ صلى الله عليه وآله وسلم أنّ يصيبه حزنٌ -حسب تعبير ابن تيمية- أو ضيق ممن لم يدخل في الإسلامِ في أول الأمر فكذلك في آخره؛ فالمؤمن منهيٌّ أن يحزن عليهم أو يكون في ضيقٍ من مكرهم». وهذا ظاهرٌ فقهاً واعتباراً في مثل هذه الآيات: ﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾، (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)، (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ)، (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ). وإذا ما حققتَ معانيَ هذه الآياتِ فاعلم أنّ ما ذكرهُ جلا وعلا عن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم من شدةِ الحزن وما كان يعتورهُ -بأبي هو و أمي- من ضيقِ الصدرِ حيال عدم إيمانهم إذ أوشكَ معهُ من إهلاك نفسه آسفاً؛ فإنّ محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يجد من ربّه جراء ذلك ثناءً وإنما وسعهُ الله برحمتهِ إذ نهاه ُعن ذلك في أكثر من موطنٍ كما نصّت على ذلك الآيات السابقات وسواها كثير. وتبعاً لذلك نستطيعُ القول: إنّ ثمّة قاعدةً شرعيّةً -قرآنيّةً- أوشكت أيامنا هذهِ أن تكون غائبةً وذلك بفعلِ تداخل نصوصٍ لا مشاحةَ في أنّها معتبرةٌ شرعاً في بابي الاحتساب والإيمان (مثل الغيرة على محارم الله أن تنتهك وما يدور في فلكها من حيث تمعّر الوجوه المخلصةِ غضبةً لله تعالى). وأيا ما يكن الأمر فإنما عنيت بهذه القاعدة الشرعيةِ هي تلك التي تأسست وفقَ فهمٍ قرآني -وبمنهج النبوّةِ- ويحسبُ لابن تيمية شأنَ تأصيلها بقوله: «وكثيرٌ من الناسِ إذا رأى المنكرَ أو تغيّر كثيرٌ من أحوال الإسلام جزعَ وكلَّ وناحَ كما ينوح أهلُ المصائب وهو منهيٌّ عن هذا؛ بل هو مأمورٌ بالصبرِ والتوكلِ والثباتِ على دين الإسلام، وأن يؤمنَ بأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون وأنّ العاقبةَ للتقوى». ولا يفتأ ابن تيمية اشتغالاً على توكيدِ الإجابةِ تصريحاً وضمناً عن السؤالِ الذي أوردتُهُ في بدء المقالة؛ إذ وكّدَ أبو العباس ابن تيمية -القاعدة الآنفة- في موضع آخر من الفتاوى بشيءٍ من بسطٍ وهو بسبيل التعليق على قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ» إذ قال: (... وفي الآية فوائد عظيمة: أحدها: أن لا يخاف المؤمن من الكفار والمنافقين؛ فإنهم لن يضروه إذا كان مهتدياً. الثاني: أن لا يحزن عليهم ولا يجزع عليهم؛ فإن معاصيهم لا تضره إذا اهتدى، والحزن على ما لا يضر عبث، وهذان المعنيان مذكوران في قوله: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ). الثالث: أن لا يركن إليهم، ولا يمد عينه إلى ما أتوه من السلطان والمال والشهوات، كقوله: (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ). فنهاه عن الحزن عليهم والرغبة فيما عندهم في آية، ونهاه عن الحزن عليهم والرهبة منهم في آية، فإن الإنسان قد يتألم عليهم ومنهم، إما راغباً وإما راهباً. الرابع: أن لا يتعدى على أهل المعاصي بزيادة على المشروع في بغضهم أو ذمهم، أو نهيهم أو هجرهم، أو عقوبتهم؛ بل يقال لمن اعتدى عليهم: عليك نفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت، كما قال: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) الآية. وقال: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ). فإن كثيراً من الآمرين والناهين قد يتعدى حدود الله إما بجهل وإما بظلم، وهذا بابٌ يجب التثبت فيه، وسواءً في ذلك الإنكار على الكفار والمنافقين أو الفاسقين أو العاصين. الخامس: أن يقوم بالأمر والنهي على الوجه المشروع، من العلم والرفق، والصبر، وحسن القصد، وسلوك السبيل القصد..).