أفهم أن بعض الناس، السياسيين وكبار المسؤولين والجمهور، لا يرغبون في الإكثار من القوانين، فهم يرونها قيدا وسببا في إبطاء الحركة. هذا الرأي يقف وراءه واحد من ثلاثة عوامل: أولها: تقدير فحواه أن البلاد ما زالت في مرحلة تحول يصعب معه وضع نمط عام للقضايا التي تبرز أمام الإداريين ورجال الدولة. الأمر الذي يستدعي معالجة كل مسألة بمفردها وضمن إطارها الخاص. مفاد هذا الرأي هو تمكين رجال الدولة من التصرف تبعا لاجتهاداتهم الخاصة دون التقيد بقانون محدد. الثاني: أن ""الميكانزم"" الداخلي للنظام الاجتماعي السياسي ككل منظم بالاستناد إلى محورية ""شخص"" الرئيس وليس القواعد والمعايير الثابتة. طبقا لهذا الرأي فإن القانون يبقى جامدا ما لم يحركه رجل قوي. الثالث: العمل وفق القانون غير ممكن إلا ضمن وضع مؤسسي. الوضع المؤسسي يتطلب تمايزا بين الأجهزة وتنظيما معقدا للصلاحيات ونظاما متينا للمحاسبة، كما يتطلب تمكين المواطن العادي مباشرة أو عبر منظمات المجتمع المدني أو الصحافة من الاطلاع على تفاصيل عمل الدوائر الحكومية. وجميع هذه الشروط غير متوافرة في بلدنا حاليا. الرسالة الداخلية للمبررات الثلاثة أعلاه واحدة، خلاصتها أن الإدارة يجب أن تبقى شخصية. وأن يمنح رجالها كامل الصلاحيات اللازمة للتصرف طبقا لاجتهاداتهم في كل مسألة على حدة. يعتبر ماكس فيبر واحدا من أهم صناع علم السياسة الحديث. وهو وإن كان في الأصل مهتما بتفسير الظواهر الاجتماعية، إلا أن نظرياته حول الشرعية السياسية والإدارة تعتبر من أهم الاختراقات التي ساهمت في صوغ فكرة الدولة الحديثة والإدارة العامة كما نعرفها اليوم. نظرية فيبر حول البيروقراطية ودورها في عقلنة وتحديث الإدارة، لا تزال حجر الرحى في علم الإدارة الحديث. لاحظ فيبر أن الإدارة الشخصية فعالة في حسم الأمور. لكن هذا قصر على المجتمعات الصغيرة، مثل قرية ذات نمط إنتاج ثابت ومنظومات علائقية وقيمية ساكنة. أما في المجتمعات الكبيرة، لا سيما تلك التي تجري فيها عمليات إنتاج مختلفة الأنماط، ونظم علاقات وقيم غير موحدة، وتحولات في البنية الديموغرافية للمدن، فإن الإدارة الشخصية تتحول إلى معيق جدي لتطور المجتمع والدولة معا. يميل عالم اليوم بمجمله إلى توحيد وتنميط التبادلات اليومية على اختلاف أنواعها. البنوك ومزودو الخدمات العامة يحثون الجمهور على استعمال نظم الخدمة الذاتية وتلافي الاتصال بالموظفين. وتميل الحكومة إلى توحيد نظم التعليم كوسيلة لإنتاج ثقافة عمل واحدة وهوية وطنية واحدة. وتميل الدول عموما إلى توحيد أيام العمل والعطلة ونظم التبادل المالي كي توفر الوقت والجهد الذي يعتبر كلفا اقتصادية. نحن إذن نتحدث عن زمنين مختلفين: إذا كنا مستريحين إلى نظام المجتمع القروي القديم، فالإدارة الشخصية تكفينا. أما إذا أردنا استيعاب تحديات العصر الجديد والنهوض بمجتمعنا ومجاراة الأمم المتقدمة، فلا مناص من الاتكال على نظام مؤسسي تحكمه قوانين واضحة وعلنية. لا بد من الاختيار بين حاكمية الأشخاص أو حاكمية القانون، بين البقاء على الموروث أو ركوب قطار العصر.