مجتمعاتنا العربية لم تبتلع مجرد أوراق نقدية بل أحلام وطموحات لم نستطع استردادها، مما جعل المثل الشهير "الداخل مفقود، والخارج مولود" أحد أكثر الأمثلة العربية انتشارا وتداولا قبل أن أغادر مكتبة الجامعة، التي أدرس فيها ببريطانيا، قبل نحو أسبوع، أبلغت الاستقبال بأن آلة بيع المشروبات لا تعمل فقد ابتلعت عليّ جنيها إسترلينيا. طلب مني الموظف رقم هاتفي واسمي. في صباح اليوم التالي، تلقيت رسالة نصية إلى جوالي مفادها أن مدير الاستقبال ينتظرني عصر اليوم بخصوص آلة البيع الذاتي. ذهبت إليه في الموعد فاعتذر لي عما حدث وأعاد إليّ الجنيه بعد أن تأكد من هويتي ووقعت على ورقة يحملها. القضية ليس في الجنيه بل في احترام الإنسان وحقوقه مهما صغرت. فقبل أشهر قليلة أقمت في فندق بالخبر لليلة واحدة، نسيت فيه شاحن جهاز الجوال، وتذكرته بعد ربع ساعة من مغادرته. هاتفت الفندق وأخبرته بأنني نسيت الشاحن في الغرفة. طلب مني الموظف رقم الغرفة فأعطيته إياه. ثم سألني أن أنتظر قليلا ليتحقق أن الشاحن في الغرفة أم لا. انتظرته طويلا على الهاتف قبل أن يعود بالنبأ السعيد: "الشاحن موجود. بإمكانك الحضور في أي وقت إلى الفندق واستلامه من الاستقبال". طلبت منه أن يضع الشاحن في ظرف ويكتب عليه اسمي وجوالي ورقم الغرفة حتى لا أصرف وقتا طويلا عندما أحضر إلى الفندق لاستلامه. وعدني بتلبية رغبتي. عدت بعد ساعتين إلى الفندق. سألت عن شاحني في الاستقبال كما اتفقت مع الموظف في المكالمة الهاتفية. أعطيتهم اسمي ورقم جوالي والغرفة. لكنهم لم يعثروا عليه. أخبرتهم أنني تحدثت قبل قليل مع موظف في الفندق وتأكد أن الشاحن موجود ووعدني أن يضعه هنا لأستلمه متى ما جئت. طلب مني موظف الاستقبال أن أنتظر في بهو الفندق ليعيد البحث مع زملائه. انتظرت في البهو نحو نصف ساعة دون نتيجة. فعدت إلى موظف الاستقبال، الذي أكد لي أنه لم يجد الشاحن. طلبت أن أتحدث مع المدير. أجرى الموظف أكثر من اتصال ثم خرج إليّ المدير المناوب، الذي استمع إليّ ووعدني أن يعثر على الشاحن خلال دقائق. بعد نحو ربع ساعة عاد إلي المدير ومعه شاحن جوال مهترئ ليس لي. قلت له: إنه ليس لي.. فرد: "هذا ما لدينا". انصرفت بعد حوار طويل ومرير مع المدير. اختتمه قائلا: "إنه مجرد شاحن جوال يا شيخ.. الموضوع لا يستحق كل هذه الضجة". تضايقت كثيرا من الموقف وردة فعله. فالقضية ليست مجرد شاحن جوال، وإنما احترام وأمانة وقبل ذلك حقوق. فلو حدث ما حدث لي في مكان آخر في هذا العالم لما استطاع موظف الفندق أن يستبدل شاحني بآخر لأنه يعرف أنه سيحاسب وأن هناك إجراءات صارمة ستتخذ ضده. القصتان أعلاه تعكسان واقع مجتمعاتنا العربية المؤلم. ففي الكثير منها لا تستطيع أن تسترد أبسط حقوقك. تسلب منك حقوقك دون أن تستطيع أن تنبس ببنت شفة. تُبتلع مدخراتك وليس مجرد جنيه إسترليني، ولا تعود إليك، وعندما تبحث عنها لا تجد طريقا أو سبيلا. تشتكي لصديقك فيبكي لك، فهو يعاني هو الآخر من قصة مشابهة أو أكثر تعقيدا. تشعر أن المجتمع برمته ضحايا لمشاكل من ذات الفصيلة. إن مجتمعاتنا لم تبتلع مجرد أوراق نقدية بل أحلام وطموحات لم نستطع استردادها مما جعل المثل الشهير "الداخل مفقود، والخارج مولود" أحد أكثر الأمثلة العربية انتشارا وتداولا. إننا نتطلع لأوطان تحفظ لنا حقوقنا وكرامتنا وقيمتنا وأحلامنا. من له حق سيأخذه ويناله مهما كبر أو صغر.