ارتبط مفهوم الفقر كلاسيكياً بحاجة الناس إلى المال والسلع التموينية التي فيها قوام معاشهم، من مأكل ومشرب وملبس؛ لذلك بات التعامل معه بما يشبه التعامل مع الأزمات الطارئة من خلال تقديم المعونات الآنية، وتبقى المؤسسات ذات العلاقة كجمعيات البر والضمان الاجتماعي بمثابة مؤسسات إنعاشية، أو بمعنى أدق مؤسسات تُعنى بحالات طارئة مستديمة. واقعياً فإن دائرة مفهوم الفقر تتسع لتشمل حاجات البشرية على مختلف تنظيماتها وبيئاتها ومواردها، فالدول التي تدخل في نطاق الخريطة الجغرافية للفقر، التي رسمتها المنظمات العالمية، تضع في عين الاعتبار فقرها المدقع في مجالات مختلفة، كما تعي المنظمات الأزمات الحقيقية التي تعاني منها الدول ذات الموارد الكبيرة والدخول العالية، مدرجةً هذه الأزمات بنوع مختلف من أنواع الفقر، لذلك تتعامل معها من منظور يناسبها، وقد يكون مستوى التدخل بحدود ضيقة للوصايا الدولية عليها، وهذا ما قد يعطل أي نيات حسنة في إصلاحها، وحري بها أن تسعى من داخلها جدياً لتلافي أزماتها التي ربما ستقودها إلى الهاوية، وتنقب ما وسعها الجهد عن مكمن أو مكامن الفقر المتواري خلف واجهة براقة من الدعاية الفجة أو التسويق المجاني لنهوضها. فالعبرة ليس بما تستطيع أن تنتجه وتسوقه من خيرات الله في أرضها بقدر قدرتها على استشعار وجه أو وجوه الفقر والسعي حثيثاً لاستئصالها جذرياً، عدا ذلك ستظل الدولة (أي دولة) «تنفخ في قربة مقطوعة». في عالمنا العربي تجذر الفقر وضرب أطنابه أعواماً عدة، ليس على المستوى المادي أو المعيشي، بل على المستوى الذهني، أي الذهنية التي تثق بقدراتها على إدارة أزماتها بطرق ملتوية، بحيث تظل كفّة الغنى الأرجح تميل باتجاه دائرة ضيقة من الصفوة المختارة المنشأة في إطار منتخب على أساس نفعي لا يقبع تحت مظلة قانون صارم، ما شكل زمنياً طبقة اصطلح عليها بالطبقة المخملية؛ الطبقة التي لا يمكن أن ترى المجتمع إلا بعين واحدة، وهذا العوَر يعد أحد وجوه الفقر في تصور الأشياء ومطابقتها للواقع، ومن داخل هذا المسطح الضيق للرؤية تتجاذب مجموعة نفعيات تحكمها وتديرها القوة الماكنة لمركز النفوذ الأول وهو المال أو الثروة، وعلى أساسها تقسم الأدوار وتوزع الحقائب الإدارية أو العسكرية، وبذلك تضمن قدرتها على إجهاض أدنى محاولة لاختراقها، وهذا فقر في القدرة على التخيل واستشراف المستقبل الذي يتدفق في رحمه كل نطف الممانعة والرفض، ولربما تتخلق أجنة مشوهة في غفل من القبضة الحديدية للنخبة السياسية، ويفلت صمام أمانها فتنفجر عبواتها الناسفة. هذه النظرة الفقيرة أحادية الجانب في تقويمها للمجتمع لا يمكن أن تراه إلا تحت سقف الأهمية، لذلك ساعة يمنح شيء من العناية، فستأتي على سبيل المنة أو محملة بأجندة سياسية تقليدية مكشوفة. يتبع هذه الرؤية الفقيرة المتخلفة لواقع الحياة وتغيراتها، عدم الاكتراث إلى أن ثمة ذرات اجتماعية حرة لا نهائية تسعى حثيثاً للتكامل من داخلها لتجاوز حال الفقر ولو بالانقضاض على مصادر الثروة للاستمتاع بها، وقد تفسر استشراء عصابات السرقة المنظمة المتفشية داخل الدول الغنية التي لم تستطع صياغة نفسها، بالفقر التعليمي والثقافي، الذي تشكو منه على أنه إرهاصات لجماعات أخرى تقدم لنفسها بشكل علني وفق رؤى وتصورات واعية تدرك جيداً معنى الحق في مشاركتها للطبقات المخملية للثروة. الفقر الآخر يتمثل في ضعف الإدارة على صياغة أنظمة ولوائح دقيقة ومنصفة، وقادرة على كف الأيدي العابثة بمقدرات الوطن من خلال الرشوة أو ما اصطلح عليه تسهيل المنافع أو تسيير الأمور، وكذلك عجزها عن معالجة الخلل، وهذا ما سيؤدي إلى كوارث، شهدتها بعض الدول كنتيجة لإطلاق أيدي المرتشين لتتحكم بمفاصل مهمة من إدارات البلد. أثبتت الوقائع الأخيرة في مناطق مختلفة من العالم العربي اعتداءات متكررة بتحفيز مستبطن للمقت على مذهب أو عرق ما، إلا أن الكارثة الأكبر تقع ساعة الأزمات بما لا يدع مجالاً للحل أو العودة إلى نقطة البداية. الملاحظ أنه متى بدت الحقائق واضحة وجلية بلا تدخل مسيس فستنشق هذه الثقافة عن أي ملحقات فائضة عن الحاجة، ليبقى التعايش الحر والاحترام المتبادل هما السمتان الرئيستان لتأسيس مجتمع يحارب الفقر بكل أشكاله، فيصبح المجتمع والدولة معاً متى فشلت في تأسيس قاعدة اقتصادية مكونة من أبناء الوطن بما يحقق اكتفاءً ذاتياً لا نفتقر معه لإخراج أموال طائلة بطرق عشوائية تحت طائلة ما يُسمى العمالة الأجنبية والبضائع المستوردة. الفقر الأخير الذي سينهي أي دولة، مهما علا شأنها وتنوعت مواردها، هو عدم استشعار الفقر الذي تعاني منه.