العنوان يشي بالدخول في موضوع شائك، فلا بد والأمر كذلك، وحتى لا يصطاد أحد في الماء العكر، أو يسارع لتفسير النوايا، فإنني أقصد بالعنوان قيادات الشيعة العرب، الذين يعتقدون بولاء غير منازع للحكم الإيراني، ويسوقون مناصريهم إلى ذلك، في موقف معاد ونشط يتعدى السياسي إلى العملي لتسويغ قتل المطالبين بالحرية. ولا بد من تثمين البيان الشجاع الذي صدر من عالمين شيعيين عربيين، هما محمد حسن الأمين وهاني فحص، حيث طالبا القيادات الشيعية السياسية العربية بالانسجام مع أنفسهم وتأييد الانتفاضات العربية، وخاصة السورية، وعدم الوقوف ضدها، وهما يشكلان تيارا مستنيرا وبعيد النظر ربما يكملان ما قام به قبلهما الشيخ المرحوم محمد حسن فضل الله، والمرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين. الانجراف بالاتجاه الآخر دون تبصر، يشكل صدعا مستقبليا بين طائفتين من مصالحهما العليا الانسجام لا التنافر. أكثر من مرة تطرقت إلى هذا الشقاق السياسي الذي يتحول سريعا، بسبب الجهل أو التوظيف السياسي، إلى اختلاف عقيدي، في بعضه حاد يحمل أمراض التخلف ومعها صواعق التفجير المجتمعي في أكثر من مجتمع عربي. في التثقيف القومي العام منذ الحرب العالمية الثانية، ودخول العرب في صراع مع المستعمر الخارجي، لم يكن الأمر قد تبلور إلى شقين أو فسطاطين ليس بينهما جسر، شق سني وشق شيعي، كان هناك شعور عام بالوحدة الوطنية يتخطى الاجتهادات المذهبية ويقلل من شأنها. ناضلت النخبة الشيعية مع السنية مع شرائح المجتمع العربي الأخرى في سنوات ما بين الحربين وما بعدها في كل بقعة عربية وجدت نفسها تحت علم واحد في وطن واحد ولأهداف واحدة. وضعت التفسيرات الفقهية الثانوية خلف الشقاق السياسي، ربما حتى قيام الثورة الإيرانية. لا أريد أن أتجاوز الإرهاصات قبلها في بذر شيء من الشقاق، ولكنها لم تتبلور - كما يقول به المتعصبون اليوم من الطائفتين - توظيفا لأهداف سياسية محدودة أو بسبب جهل غامر. اليوم بعد كل ما حصل من أحداث في بلاد المشرق العربي، فإن هذا الشقاق بدا واضحا، وقد تجاوز حتى الزعم بالتوحد من أجل مساعدة (الإخوة الفلسطينيين) الذي اختبأت خلفه بعض الأهداف الغامضة، فلم يعد مقبولا مناصرة ديكتاتورية فجة بالتدخل النشط للمساهمة في قتل الشعب السوري. هناك ثلاث حلقات على الأقل تشير على المتابع أن يفتتح هذا الموضوع بعقلانية، بعيدا ما أمكن عن التعصب، وهو آفة كثير مما يكتب اليوم، وانسجاما أيضا مع ما نشره العالمان الشيعيان العربيان المستنيران الأمين وفحص. الحلقة الأولى ما يحدث في العراق من استحواذ سياسي على مقدرات البلاد وتهميش الآخر المواطن. لقد ضم حزب البعث كل الفئات العراقية من جهة، كما أن ظلمه وبطشه لم يستثن أحدا، وبعد تحرير العراق من ذلك النظام اعتقد كثيرون أن الديمقراطية سوف تقوم على قاعدة المواطنة المتساوية، إلا أن الأمر لم ينته إلى تلك النتيجة. لقد أصبح العراق - إلى حد كبير - تحت النفوذ الإيراني بشكله الطائفي وليس السياسي فقط، وأصبح المتحكم فيمن يحكم أو لا يحكم في العراق ليس بغداد بل طهران بسبب نفوذها الواضح في تأييد بعض القوى المتصارعة محليا ضد الأخرى. من هنا فإن بغداد الرسمية في الكثير من المواقف تبتعد عن السعي لتحقيق المصالح العليا للعرب من أجل مصالح مؤقتة للنظام الإيراني. الأمثلة كثيرة، على رأسها الموقف من أحداث سوريا التي كان من المتوقع أن تجمع العراقيين والسوريين على صعيد واحد في رفض حكم الحزب - العائلة الذي اكتوى بناره كل العراقيين، فإذا به ينضم دون الكثير من الاكتراث إلى تأييد حكم معاد للديمقراطية، وقمعي قاتل لشعبه. الحلقة الثانية هي ما يقوم به حزب الله من نشاط معاد للثوار السوريين، وهو نشاط يتعارض كليا مع كل المبادئ التي يدعيها الحزب من مناصرة المستضعفين إلى مقاومة الظالمين. إن خطورة ما يقوم به حزب الله أكبر بكثير من نشاط الدولة الإيرانية في سوريا، حيث إن الأخيرة لها مصالح، وتدافع عن تلك المصالح من موقف قومي، إلا أن حزب الله يفقد مناصريه السنة الذين عمل كل الجهد للفوز بهم إبان الحديث المكرر حول المقاومة للتسلط الإسرائيلي، وهو ما اتكأ عليه كثيرا وطويلا للخروج، الشكلي على الأقل، من عباءة الطائفية. المجتمع السوري تربى لفترة طويلة على الفكر العروبي، ومناصرة سوريا لحزب الله كانت بلا جدال رسمية في السنوات الأخيرة، إلا أنه لم يكن بالمستطاع دعم تلك المناصرة لو لم تكن قطاعات واسعة من الشعب السوري متعاطفة كل التعاطف مع تلك الشعارات ومؤمنة بها. اليوم يقوم حزب الله، من خلال مناصرته النشطة والمسلحة لنظام يقتل شعبه بهذه الوحشية، ببناء أسس للتصدع المستقبلي ويدق إسفين الشقاق العبثي، وعمله على الأرض يصيب الشارع السوري بخيبة أمل، من مضاعفات خيبة فقدان الرصيد الشعبي لحزب الله في كل من سوريا ولبنان وخارجهما، خاصة بعد أن تبين أن تحالفاته تقوده إلى السكوت عن - أو تبرير - ما نشر مؤخرا من محاولات (إرهابية) في لبنان من عناصر تابعة للنظام السوري حتى يفتح جبهة جديدة، تدمي النسيج اللبناني الهش، لعلها تخفف الضغط الدولي عن النظام السوري. ولعل أزمة الناشطين السياسيين من الطائفة الشيعية وقياداتهم، غياب الظهور على شاشاتهم بعد، التي عادة ما تكون حساسة، ومغبة النشاطات المناوئة لخيارات الشعوب العربية ورغبتها في التخلص من الأنظمة الشمولية، أنهم يغامرون كثيرا بمستقبل الطائفة في محيطها في أكثر من مكان، من هنا فإن التحية واجبة لشجاعة هاني فحص ومحمد الأمين ومن يتبع خطواتهما العاقلة والتاريخية. آخر الكلام: لو كان لي أن أنصح الصديق الكبير الأخضر الإبراهيمي، لقلت: إن صح الطلب منك العمل في مكان كوفي أنان في الموضوع السوري، فعليك بالاعتذار، فأنت تعرف قبل كثيرين عمق التعنت المرضي المصاب به النظام، وكمية الدم التي أريقت حتى الآن من عروق الشعب السوري، من أجل فقط أن تبقى فئة صغيرة تتحكم في الزرع والضرع. الاعتذار أفضل كثيرا من الفشل المرجح. * نقلا عن "الشرق الأوسط"