صك «البراءة السياسية» الذي قدّمه سعد الحريري إلى سورية كان الخاتمة الطبيعية للمقدمات التي سبقت. من المصالحة السعودية – السورية في قمة الكويت قبل نحو سنتين، إلى زيارته دمشق العام الماضي، مروراً بعودة التوجه الأوروبي والأميركي نحو دمشق في السنوات الثلاث الأخيرة. وهي تحولات أملتها وتمليها المصالح التي لا تعترف بمواقف سياسية أو خصومات «ثابتة» لا محيد عنها. وهي نفسها المصالح التي أملت على وليد جنبلاط الاستدارة نحو دمشق مجدداً. مثلما أملت على القيادة السورية أيضاً تناسي كل العهود التي قطعتها بعدم فتح الحدود أمام من قادوا حملة إخراج قواتها من لبنان ورميها بسيل من الاتهامات إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري. كانت سورية خلال السنوات الثلاث التي أعقبت اغتيال الرئيس الحريري في دائرة النار أو الحصار الغربي والعربي أيضاً. ما دفعها إلى تمتين علاقاتها بإيران إلى حدِّ التماهي معها في كل المواقف السياسية. حتى خُيل لبعضهم أنها باتت «ورقة» هي الأخرى في يد الجمهورية الإسلامية، ولم تعد تملك الحرية الكاملة وستكون جزءاً من أي صفقة تبرمها الجمهورية مع الغرب! لكنها في المقابل كانت تواصل تعزيز علاقاتها مع تركيا التي بدت هي الأخرى بحاجة إلى مثل هذه العلاقات لرفع التحدي الذي طرحه التمدد الإيراني في المنطقة. ولم تتوانَ عن ملاقاة الملك عبدالله بن عبدالعزيز عندما بادر إلى المصالحة ورأب الصدع، منطلقاً هو أيضاً من اقتناعه بأن الخلاف بين المملكة وسورية ألحق الضرر بدور الدولتين معاً في أكثر من موقع إقليمي، من العراق إلى فلسطين مروراً بلبنان، لحساب دول الجوار العربي. وإذا كانت الدول العربية تعي أن تمدد النفوذ الإيراني في المنطقة تم على حساب النظام العربي ومصالحه، فإن المملكة تعرف قدر موقع سورية الجغرافي والسياسي في توازن هذا النظام، وهو ما طبع تاريخاً طويلاً من العلاقات الاستراتيجية والمصالح المتبادلة بينهما. وهذا الموقع نفسه كان وراء تبديل فرنسا وأوروبا عموماً وبعدهما الولاياتالمتحدة سياستها حيال دمشق، بما هي مفتاح ومعبر لكثير من الحلول ما دامت قادرة على أن تكون أداة تعطيل لمعظم هذه الحلول. حتى اعترف مسؤولون أميركيون بأن محاولتهم عزل سورية في المنطقة كادت أن تتحول عزلاً لأميركا نفسها. والتبريرات التي ساقها «العائدون» إلى تعزيز التواصل مع سورية كان عنوانها ولا يزال السعي إلى إبعادها عن إيران وقطع الوصل بينها وبين الحركات التي تناهض «المشاريع» الأميركية في الشرق الوسط... وما سموه «تحسين سلوك النظام» ما دام أن تغييره لا يخدم مصالحهم. لكن هؤلاء سيكتشفون عاجلاً أم آجلاً أن الفكاك بين الدولتين ليس في أجندة أي منهما، مهما حصل. والأسباب كثيرة. لعل أبرزها أن سورية التي لم تنقطع علاقاتها بإيران منذ قيام الثورة الإسلامية، تحتاج إلى هذه العلاقات لتفعيل دورها الإقليمي في أكثر من ساحة، مستندة إلى الحضور القوي للجمهورية الإسلامية في هذه الساحات. تماماً مثلما تحتاج طهران إلى دمشق للحفاظ على كثير من أدوارها وحضورها في الساحات نفسها. كما أن سورية تعرف جيداً أن الحاجة إليها أميركياً وأوروبياً وعربياً تزداد كلما ازداد الدور الإيراني تمدداً. وتزداد أكثر كلما كانت هناك حاجة إلى قناة تواصل مع «حزب الله» و «حماس» وغيرهما من الحركات والقوى التي تقف إلى جانب الجمهورية الإسلامية. لذلك لم تتصرف في السابق ولا يمكن أن تتصرف على أساس أن ثمة أبواباً عربية أو غير عربية لا بد من عبورها لدخول واشنطن أساساً. كانت ولا تزال تعتمد مبدأ أن ما يمكن أن «تقايض» به أي إدارة أميركية، تديره هي بلا وسيط. لذلك سعت سورية دائماً إلى الحفاظ على موقعها عبر الحفاظ على تموضعها في تحالفين متناقضي السياسة إقليمياً ودولياً كما هي حالها اليوم. هي من ناحية حليفة للجمهورية الإسلامية التي تناهض علناً التسوية السلمية في الشرق الأوسط، وتثير حساسية عدد من الدول العربية التي تعتبر أن التمدد الإيراني في المنطقة يأكل من رصيد النظام العربي. وهي من ناحية ثانية حليف لتركيا التي تؤدي دوراً في دفع التسوية، وتسعى إلى أداء دور منافس وموازن لدور جارتها الشرقية، بما يعيد شيئاً من التوازن إلى كفة عرب الاعتدال. وتدرك سورية أن ما يمكن أن تحصل عليه في لبنان يصعب حصولها على مثيله في العراق. هنا ترجح كفة إيران عبر الأحزاب والقوى الشيعية. وهنا لا تحتاج الجمهورية إلى نقطة عبور يحكمها السوريون مثلما هي الحال مع «حزب الله» وقيادة «حماس» والفصائل التي تناهض السلطة الفلسطينية. ولكن على رغم هذا الواقع يمكن سورية بالتعاون مع العرب الذين يخشون سقوط بغداد نهائياً في قبضة إيران، أن تؤدي دوراً معطلاً لأي تسوية سياسية في بغداد لا تراعي مصالحها مع جارها الشرقي. لذلك بدا أن ثمة تسليماً لها أو تكليفاً بمسؤولية الحفاظ على ما يمكن تسميته «عروبة العراق». وهو أحد أسباب التقارب بينها وبين الرياض وعواصم خليجية أخرى. وهو ما دفعها إلى تبريد الأجواء أخيراً في العلاقة مع زعيم «دولة القانون» نوري المالكي الذي قد تؤول إليه رئاسة الحكومة، بعد كل الذي كان بينهما وفاق ما صنعه الحداد! لكن هذا التعارض بين سورية وإيران في العراق لا يمكن أن يتحول «اشتباكاً» سياسياً يهدد العلاقة الاستراتيجية بينهما، نظراً إلى حاجة أحدهما إلى الآخر. بل إن إيران تبدو أكثر حاجة إلى سورية نظراً إلى موقعها الجغرافي طريقاً لا بد من سلوكها للبقاء على شاطئ المتوسط، وقريباً من حدود إسرائيل في ظل غياب التسليم الأميركي والعربي بشرعية دورها وحضورها في بغداد. ألم تكن سورية الحليف الأكبر للاتحاد السوفياتي في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وظلت الحليف الأكبر حتى عندما غضبت موسكو من تفاهمها مع واشنطن لإدخال قواتها إلى لبنان بغية تحجيم «الحركة الوطنية» ومنظمة التحرير الفلسطينية، الحليفين الرئيسين للسوفيات؟ انطلاقاً من لعبة المصالح والتوازنات الضرورية للحفاظ عليها، لا يمكن سورية التي تحتاج إلى ظهير عربي قوي كالسعودية - في ظل استحالة عودة المياه إلى مجاريها مع مصر لأسباب سياسية وشخصية - أن تجازف بالتغاضي عن فتنة مذهبية في لبنان. فهي زجت بقواتها في هذا البلد إبان حروبه، خوفاً من انتقال نيرانها إليها، وقنصاً لفرصة تعزيز دورها الإقليمي. كما أن فتنة مذهبية ستدفعها إلى الخيار بين أمرين أحلاهما مر. فلا هي على استعداد لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء في علاقتها المتجددة مع الطائفة السنية في لبنان عبر سعد الحريري. ولا هي على استعداد لاستعداء إيران أو الطائفة الشيعية في لبنان بعد هذا التاريخ الطويل من العلاقات والمصالح والمنافع المتبادلة، خصوصاً في السنوات الأخيرة التي أعقبت اغتيال رفيق الحريري. لذلك تبدي سورية حرصاً شديداً على أن يكون تفاهمها مع الحريري مبنياً على أساس أنه الزعيم الأول في طائفته إن لم يكن الأوحد، كما هي حال جنبلاط بين الدروز. هكذا تريده، لتوفّر على نفسها عناء إرضاء زعامات هنا وهناك. بل أكثر من ذلك إن تفاهمها مع الحريري بعد خروجها من لبنان على وقع اتهامها سياسياً بالوقوف وراء الجريمة، يعتبر صك براءة زاده رصيداً إعلان «ولي الدم» براءتها. ومثلما سهل عليها التعامل مع الشيعة بعد توحيدهم خلف قيادة مشتركة ل «حزب الله» وحركة «أمل»، فإن اصطفاف السّنّة خلف الحريري يسهل عليها إقامة توازن مع علاقاتها بحلفائها القدماء، من الحزب والحركة و «التيار العوني». وهو ما يعزز قدرتها على العودة إلى أداء دور نشط في لبنان. ولا تقل مصلحة الحريري في مثل هذا التوازن عن مصلحة دمشق... إذا كان يقرأ في الكتاب نفسه الذي يقرأه جنبلاط بعدما قرأه كثيرون قبله. على رغم كل ما يعنيه ذلك من حاجة البلد الصغير إلى ضابط للعبة، في ظل اختلال ميزان القوى عسكرياً وسياسياً. لقد أعاد الحريري - بعد جنبلاط - ترتيب أوراقه بما يحفظ المصالح، يبقى على خصومه وبعض حلفائه أن يعيدوا ترتيب أوراقهم في ضوء الصورة الجديدة التي تتبلور يومياً في المنطقة ولبنان... فهل يفعلون؟