قبل عدة أيام اطلعت على تحقيق في جريدة "الرياض" بعنوان (متى نرى المرأة تعمل على كاونترات المطار) بقلم الزميلة هدى السالم. قبل أن أقرأه هرعت إلى التعليقات. جاءت هائلة كما توقعت. أكثر من ثلاثمائة تعليق. ربما كان الأكثر قراءة في جريدة "الرياض" في ذلك اليوم. تأملت فيه. ما القيمة الصحفية التي أعطته كل هذا الاهتمام. لا يمكن أن يحظى عنوان كهذا بأدنى اهتمام في أي بلد في العالم. لا يمكن أن ترى هذا العنوان في جريدة امريكية أو باكستانية أو يمانية أو سودانية أو جوتيمالية أو بريطانية أو أفريقية أو حتى في جرائد الماضي (لو قدر أن هناك جرائد) لا يمكن أن تقرأه في صحف الدولة العباسية أو الأموية أو الصفوية أو العثمانية أو اليابانية أو الرومانية أو البدروية (نسبة لبيدرو الذي قضى على مملكة الانكا في امريكا الجنوبية). لا أعلم عن صحافة المجرات الأخرى، لذلك يصعب التنبؤ في الوقت الحاضر. لا قيمة لهذا العنوان على مستوى الكرة الأرضية والتاريخ, إلا في صحف المملكة.. لا يشاركنا فيه أحد. قمة الخصوصية. لكن مشكلة الخصوصية أنها أصبحت بلا خصوصية. لا أحد يجرؤ على استخدام العبارة الأثيرة القديمة( الخصوصية السعودية ). استطاع الإعلام إزالتها من الأفواه وتكريس عقدة الذنب عند أصحابها. حتى المطاوعة صاروا يتهربون من استخدامها. إذا زل لسان الأخ (الخصوصي) ( المؤمن بنظرية الخصوصية ) كقولنا ( علماني) نسبة للعلمانية, إذا زل لسانه وحن للماضي يسارع بالاعتذار والتفسير وينفي عن نفسه تهمة الخصوصية كما ينفي العلماني عن نفسه تهمة العلمانية. هذا النفي على مستوى المصطلح لم يرافقه نفي على مستوى الممارسة والواقع. إذا قلنا أن الخصوصية هي الشيء الذي لا يشاركك فيه أحد، فسبعون في المائة مما يطرح في الإعلام السعودي ينتسب للخصوصية. قلب الجريدة اليوم وتحقق بنفسك. الخصوصية في المملكة لا تتوقف عند القضايا الاجتماعية كقضية المرأة. لو دققت في الصفحات الرياضية والاقتصادية والثقافية ستجد أن هناك خصوصية في كل المجالات والتخصصات والتفريعات. خذ مثلا قطار المشاعر. مشروع كل طوله ثمانية عشر كيلو مترا. لو كان في دولة أخرى لن تتعدى قيمته الإعلامية خبرا صغيرا في أسفل الجريدة. لكن الخصوصية التي يتمتع بها أعطته قيمة تاريخية. تناولته كل الأقلام: مفكرين فلاسفة محللين اقتصاديين ورجال دين الخ.. كل شيء في هذا القطار لا يشبه أي شيء في العالم. شكله وتصميمه وطوله وقيمة عقده الخ.. جعلت منه وحيد زمانه. قطار يعتنق مبدأ الخصوصية بكل إيمان كما تعتنق الحكومة البريطانية مبدأ العلمانية وسارتر مبدأ الوجودية. أنصح الإخوة القراء قراءة التحقيق والتعليقات عليه. تتميز التعليقات أنها تنتج ما يمكن أن أسميه الخصوصية التفريعية. وأعني بالتفريعية ترداد نفس الكلام في أي موضوع يخص عمل المرأة. الشيء الذي سأناقشه قريبا بشكل أوسع اقتراح البعض أن (أولا دبروا وظائف للرجال العاطلين وبعدين تأتي المرأة). صاحب هذا المبدأ يعتنق مبدأ قديام يظهر بوضوح في العزائم والولائم. يأكل الرجال أولا وإذا بقي شيء على السماط يعطي للحريم.