سامي الماجد * الحياة اللندينة من تاب فإنما توبته لنفسه، والله أعلم بها، وليس لأحدٍ أن يحقق فيها: هل صدقت توبته أو لا؟ لأنها شأن بينه وبين ربه، والطعن فيها هو من قبيل الرجم بالغيب ووقوع فيما نهى الله تعالى عنه في قوله: «ولا تقْفُ ما ليس لك به علم»، كما أن من تاب من أي ذنبٍ لا يقال عنه إلا «تائب» فحسب، والتوبة بمجردها لا تؤهله لأن يكون رمزاً يشار إليه، ولا داعيةً يُصدَّر، ولا قدوةً يُقدَّم أنموذجاً للشباب؛ لكنَّه في بلدنا يقدَّم على هذا النحو...رمزاً يُشْهر، وداعيةً يصدر، وقدوةً يصنع، في بلدنا تستحيل توبة التائب من انحرافات معينة فتنةً له ولغيره، فتكون التوبة مقصودةً لغير الله والدار الآخرة، وسبيلاً سهلاً لتحقيق شهرة ونيل حُظوة. من حق كل تائب علينا أن نفرح بتوبته، وندعو له بالثبات، ونعينه على نفسه، وإذا كان في نيَّته من توبته غير مطعون، فإن انتكاسَه ورجوعه إلى طريقته الأولى غير مأمون، ومتى وضعنا توبته في حجمها الطبيعي، وتعاملنا معها التعامل الصحيح المناسب، خفّتِ الفتنة في توبته وفي انتكاسته، وربما عُدمت، وهذه الوسطية في التعامل معها من دون انجرافٍ لعاطفة مفرطةٍ تعينه على نفسه، وتزيده ثباتاً واعتدالاً. أمر آخر لا يمكن إغفاله ونحن نتحدث عن شؤم مبالغتنا في الحفاوة بتوبات بعضهم، أو بعضهن، وهو الاغترار بتوبات المجاهيل، واتخاذها أدلة فاضحة لهذا التيار، أو ذاك، وكم وقعنا أضحوكةً لأناس كَذَبَة أحبوا أن يلعبوا معنا هذه اللعبة السخيفة، قدّمانهم ليحكوا لنا قصة «توبة صادقة»، وتجربة مع «العفن الفني»، وثالثة مع «فضائح الليبرالية»... وكم لُدغنا من جُحرٍ واحدٍ مرات، وما زلنا نصرُّ على الممارسة نفسها، «أوَلا يرون أنهم يفتنون في كل عامٍ مرة أو مرتين، ثم لا يتوبون ولا هم يذّكرون». أتذكرون محاضرة «توبة صادقة»، يحكي فيها أحدهم قصةً لشاب صادفه في المطار قادماً من الخارج فقص عليه توبته الصادقة، وصارت هذه المحاضرة شريطاً يوزع في كل محفل؛ حتى في قاعة الأعراس! وفجأة تبين أن صاحب هذه المحاضرة أراد الشهرة بأسلوب رخيص صفيق، وصدق عليه وصف النبي عليه الصلاة والسلام للكاذب الذي يكذب الكذبة فتُحمل عنه حتى تبلغ الآفاق، وقد كان شأن «توبة صادقة» كذلك؛ لأننا كنا في سذاجة إلى درجة كافية. وهل نسيتم قصة ذاك المخرج «التائب» الذي أفرطنا في التعاطف مع توبته، فقدَّمناه للناس شاهداً تائباً صالحاً يفضح الوسط الفني من نافذة الإخراج، وهبَّ له المتعاطفون السُذّج يجمعون له التبرعات ليستعين بها على إخراج مسلسلات وأفلام إسلامية، ثم صحونا من غفلتنا بعد فوات الأوان، وبعد أن تبين أنه ضحك علينا، وأراد أن يلعب معنا اللعبة إياها! فلم يكن مخرجاً، بل ولم يكن معروفاً أصلاً في الوسط الفني، لا في الخبيث، ولا في الطيب، وهرب بالتبرعات، واختفى ك «فصّ ملحٍ ذاب». أما في عصر الإنترنت، ثم الإعلام الجديد، فانسقنا إلى الاحتفاء بتوبات المجاهيل، وجعلنا منها أدلة فاضحة لهذا التيار، أو ذاك، كالليبرالية، أو غيرها، وأنا هنا لا أدعو إلى القطع بكذب هذه الشهادات، فقد يكون واقع ذاك التيار أسوأ مما شهد به هذا التائب أو التائبة؛ لكني أدعو إلى التروي في تصديقها قبل اتخاذها شاهداً ودليلاً ندافع به خصومنا، أفيكون من الحصافة والمنهج السديد المحكم أن أنساق لرواية مجاهيل هم أقرب للشخصيات الخيالية؛ لأتخذها شاهداً ودليلاً فاضحاً؟! وهل عدمت من الأدلة والحجج ما يكفي لفضح الأفكار المنحرفة والمذاهب الهدامة؛ حتى أستقوي عليها برواية مجاهيل لم يلتقهم أحد منا؟! المشكلة إذنْ في تخرم المنهج وضعف أدواته التي اضطرتنا إلى هذا الاحتفاء الغريب، وأعني بالمنهج هنا منهج تلقي الأخبار، والاستدلال للحق وكشف الباطل وفضحه. هذه الطريقة العجلى في تصديق كل شيء، والاحتفاء بكل توبة الذي يجاوز مجرد الفرح بها والدعاء لصاحبها إلى تصديره رمزاً وتصديق خبره وشهادته من دون تثبت، ولو كانت شهادة على الآخرين وطعناً في دينهم وسلوكهم - هذه الطريقة لا تبني فكراً، ولا تقوِّض بناء باطل، ولا تكشف شبهة، ولا تدحض حجة، بل تربي على الكسل العقلي المعرفي، وتعوّد اتباع الحق على ركوب أسهل طريق في مناوءة الباطل، ولو لم يكن مبنياً على منهج استدلالي سليم. أعلمُ أن ثمة من يقول: إن مدافعتنا للباطل لم يكن هذا سبيلها الأوحد، فثمة أدلة منطقية عقلية، وأخرى شرعية أثرية، وإنما هذا الذي تذكره من شهادات التائبين حواشٍ على هذا الأصل، وأقول: ما الحاجة إلى الاستكثار من شيء يُظهرك في أعين خصومك مظهر الضعيف الذي يستقوي بشهادات المجاهيل، إضافة إلى أنها في شأن السلوكيات لا في عالم الأفكار. ثم هل هذه السلوكيات - إن صحت - قد وقعت من أجل أنهم ليبراليون؟! وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا يكون كل ليبرالي على هذا السلوك إذنْ؟! ثم ماذا لو أن صاحب معرِّفٍ ما ممن يُعرف بمعرفه ولا يعرف باسمه، انتكس بمفهومك للانتكاس، وراح يشهد على بعض المتدينة ببعض السلوكيات المشينة؟! فما تجيب به هنا يجاب عنك هناك. إذنْ دعْ كل سلاح يمكن لخصمك أن يشهره ضدّك ويقاتلك به. إن سلاح الحق بالحجة واللغة المقنعة هي سلاح صاحب الحق، لا يمكن لصاحب الباطل أن يتسلح به؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه. * أكاديمي في الشريعة.