د.محمد عبدالله العوين - الجزيرة السعودية قبل ثلاثة عقود في عام 1402ه أخرج صاحب ما سمّي لاحقاً بتيار السرورية الشيخ محمد سرور بن نايف زين العابدين، كتابه المشهور “وجاء دور المجوس” باسم رمزي هو: الدكتور عبد الله محمد الغريب، وكشف في هذا الكتاب خبيئات ثورة الخميني، ومستقبل التشيع، والخطر الفارسي على المنطقة، والوشائج التي تربط بين فرق الإسماعيلية كالنصيرية بالأحزاب التي نشأت حديثاً كحزب الدعوة في العراق وحزب الله في لبنان، كتاب قيِّم بالفعل، واجتهاد مبكر موفّق لكشف المخطط الفارسي الذي يتخذ التشيُّع غطاء كما يحدث الآن في سوريا، وهو يضرب بمعوله في بنية مجتمع مسلم ويفتك بأبنائه، ويهدم ويدمّر ويحرق ويهجر، سعياً إلى إفراغ منطقة الشام من الكثافة السنّية المسلمة، وطمعاً في إحلال ما يقترب من التوازن مع الأقلية النصيرية الحاكمة المتسلِّطة، ونتساءل الآن بعد سيرورة هذا الكتاب وانتشاره الكبير، وطبعه طبعات عدّة مع كتب أخرى تشتغل على الموضوع نفسه، وبخاصة أنّ الكاتب أحد الرموز الإخوانية الكبيرة والمؤثرة وإن كان منشقاً بتيار يغرِّد وحده هو تيار السرورية المتشدّد؛ نتساءل: كيف يضع الإخوان المسلمون أيديهم في يد من يقتل المسلمين؟! كيف تجرّأ زعماء حماس على نقل مكتبهم من غزة إلى دمشق وهي قلعة النصيرية الحاقدة على السنّة؟ كيف وجد زعماء حماس الإخوانية شجاعة وماء في الوجه ليحجوا إلى طهران وهي ترسل آلات القتل من طائرات بدون طيار، وطائرات تجسُّس، وقائدي العمليات العسكرية، وشبيحة، ومعدات عسكرية، ومدداً مالياً إلى دمشق، ويتحرك ذنباها حزب الدعوة العراقي وحزب الله اللبناني بدون حياء ولا رغبة في التخفِّي بخط مستقيم بكل ما يملكان من قوة بطش وشدة حقد لقتل أبناء الشام، وتدمير المدن السنّية على من فيها؟! كيف يجد الإخوان المسلمون أعذاراً لهم عند الله وعند الناس وعند التاريخ، وهم يمهرون بأيديهم حين تصافح القتلة في طهران أو في دمشق ويمنحونهم صك البراءة؟! ومن منهم يقوى بعد كل هذا الافتضاح على التبجُّح بخدمة الإسلام أو نصرة الحق أو إعلاء شأن المسلمين؟ وما هي المسوّغات المقبولة أو غير المقبولة لإقامة حلف لنصرة الدين والعروبة كما تدّعي حماس مع أعداء الدين والعروبة في دمشقوطهران؟! أهم جهلاء بحقيقة النصيرية؟! ألم يقرؤوا تاريخها الأسود وما أراقته من دماء على مدى هيمنتها المقيتة على سوريا؟ أغابت عنهم المجازر المتتالية في كل مدن سوريا؛ لا في حماة وحدها؟! أما تذكّروا واسترجعوا التاريخ القريب قبل ثلاثة عقود وما أصاب إخوانهم الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا، والدور الإجرامي الذي قام به البعثيون مع الكتائب بمشاركة وتغطية إسرائيلية؟! أيصدِّق الإخوان في مصر أو في فلسطين أو في تونس أو في قطر حين يغازلون طهران، أنها هي المنقذ للإسلام أو الناصر لقضية فلسطين؟! وإذا كانت النصرة الفارسية للفلسطينيين حقة فلمَ لم تتحرك الجيوش الإيرانية أو مندوبوها في دمشق أو جنوب لبنان للانتقام من إسرائيل بعد اجتياح غزة المرير والمؤلم؟! كان ساستنا والعقلاء من المفكرين الإسلاميين في بلادنا وسائر أقطار الوطن العربي، يؤمنون بالحوار وبالتقارب وبالعمل الإسلامي المشترك، مدفوعين بحسن النيّة وإحسان الظن وأخذاً بالعلن؛ ولكن الوقائع على الأرض لا تصدق تلك الأحلام المثالية البريئة، وتسقط أوهام الحوار والتقارب وحرية التمذهب والاعتقاد، والمجال الحيوي لكل شعب وأخلاق المجورة، والعيش المشترك والقواسم التاريخية والتبادل الحضاري بكل زخمه الفكري والأدبي والتجاري على مدى التاريخ. لقد عاد مزدك وزرادشت وبابك الخرمي، وإخوان الصفا والإسماعيليون بأطيافهم، من خلال ثورة الخميني التي أحيت ورعت وشجعت الصراع المذهبي، وقد كان خافتاً وفي حالة موات سريري عقوداً طويلة، وكان العالم الإسلامي قبل عام 1400ه1980م يتجه اتجاهاً منفتحاً على الحضارات الأخرى ويتثاقف مع الغرب على الأخص وفق منطق الفائدة المتبادلة، فجاءت الثورة الخمينية المشؤومة وأحيت ما كان خاملاً، وأيقظت ما كان في سبات، وسعت إلى مواجهة العرب والمسلمين، وأنشأت الأحزاب، وأمدّت بالعون ما كان قائماً منها في عواصم عربية متعدّدة، وها هي الآن تكاد تحكم سيطرتها على المنطقة العربية، شرقاً حيث العراق، وشمالاً حيث سوريا ولبنان، وجنوباً حيث الحوثيون، وتمد يدها إلى الحركات الإسلامية المؤدلجة لتختطفها وتسيرها وفق مصالحها، ولتشق بها ما كان يمكن أن يحدث من اتفاق أو تلاق في البيئات العربية بين هذه الحركات والشعوب والحكومات العربية. والآن: هل جاء دور المجوس؟ أم جاء دور الإخوان؟! الحق أنّ الفرس هم من يسعون إلى تسيُّد المرحلة، وأنّ ثمة تنسيقاً وتبادل مصالح مع جهات غربية عدّة، وأنهم يوظّفون إمكاناتهم كلها للعب هذا الدور والقيام بمسؤولية شرطي المنطقة، وأنهم أيضاً يعدّون العدّة منذ زمن بالأيدولوجيا حيناً وبالمال حيناً وبالقوة العسكرية أحياناً، وبالخداع والمراوغة السياسية في بعض الأحايين، وعن طريق الاستقطاب أو تسخين الخلايا النائمة وتشغيلها. المرحلة ليست للإخوان، بل هم مطيّة يمتطيها الغرب والفرس! فالغرب يمالئ هذه الجماعة لبراجماتيتها ومقدرتها التاريخية على التكيُّف والحوار مع الأطياف والفرقاء - ونستثني الراديكاليين المنشقين الذين خرجوا من العباءة الإخوانية - وذلك لاحتواء الشارع الإسلامي وتوجيهه عن طريق الجماعة الوجهة التي يريدها الغرب، فهم ليس لديهم موانع من تكييف الشريعة، كما حدث في تونس بإشراف حزب النهضة وفتوى الشيخ راشد الغنوشي، ومن إقامة صلات وروابط مع كل الأطراف المؤثرة في صناعة القرار الدولي من روم وفرس ويهود؛ مادام أنّ أولئك الأقوام سيمنحونهم المقود ويعبّدون لهم الطريق ويحمونهم من السقوط، والإيرانيون يوهمون الجماعة بالتشارك في الهم الإسلامي، ورفع راية الدفاع عن الحق الفلسطيني إما مباشرة من خلال خطب الجمعة في طهران، أو من خلال التحشيد الكاذب الذي يفعله حزب الله للقضية الفلسطينية، أو من خلال الادعاء الأخرق الغبي بالممانعة والصمود الذي يتبجّح به نظام البعث في دمشق وأراضيه تحتلها إسرائيل منذ أكثر من أربعين عاماً ولم يطلق رصاصة واحدة من مشارف جبل الشيخ أو من الجولان الذي يبعد أمتاراً عن العمق الإسرائيلي! أو بحرص الإيرانيين الظاهري على تحقيق قضية التقارب المذهبي وأن ليس لديهم حساسية أبداً تجاه الصراعات الطائفية، ويريدون من الجماعة المسيّسة أن تكون البديل المناسب للتعاطي معها لضرب الاتجاه السنِّي الآخر المختلف معها في كثير من الأمور والمختلف مع الإيرانيين في كل الأمور، وهو الاتجاه السلفي المهيمن على شبه الجزيرة العربية بما فيها المملكة العربية السعودية ذات الثقل الديني والاقتصادي والسياسي. هل سيحكم الإخوان المنطقة العربية؟ وهل هي تجربة لابد أن تمر بها المنطقة كما مرت بتجارب أيدولوجية عديدة سابقة وفشلت كالقومية والبعثية والاشتراكية وغيرها؟ هذا ما سأتحدث عنه في المقال القادم إن شاء الله. _ _ حين خرج حسن البنا عام 1928م بدعوته، يطوف الكفور والنجوع، يوقد في ليل الأمة المدلهم شمعة، ويفتح للأمل باباً، لم يكن يطمح إلى رئاسة وقيادة، وإنما كان يسعى إلى إنهاض الأمة من كبوتها؛ لتواجه المستعمر.. وتدع ما تعلقت به من مظاهر التقليد للمستبد الأجنبي، ولتقف متأملة غير منبهرة بما لديه؛ فتأخذ ما تحتاج إليه، وتدع ما هي في غنى عنه. كانت الدعوة الإخوانية في البدء إصلاحية للفرد أولاً ثم للمجموع، وهي بهذا المعنى لا تذهب بعيداً عن دعوات إصلاحية مجايلة في بيئتها؛ حيث شهد مطلع القرن الميلادي الجديد صخباً فكرياً ومعارك بين تياري المحافظة والتقليد؛ فغير بعيد عن البنا بسنوات قليلة أشعل قاسم أمين وقود معركة فكرية نفضت الغبار المتراكم عن قضية المرأة بكتابيه «تحرير المرأة» 1898م و»المرأة الجديدة» 1900م، وأستاذ قاسم الإمام محمد عبده يكتب في مجلة الشيخ محمد رشيد رضا «المنار» مقالات جديدة في مفهوم الإحياء والبعث والتجديد الفقهي، واستنباط معانٍ جديدة في قراءة النص الديني، ومصطفى عبدالرازق يخوض مغامرة جديدة بكتابه «الإسلام وأصول الحكم»، وطه حسين يدخل في معركة حامية مع الأزهر بكتابه «في الشعر الجاهلي» ولجاج استمر طويلاً في قضية الانتحال، والدكتور محمد حسين هيكل العائد لتوه من السوربون يكتب عن «الديمقراطية في الإسلام» بعد روايته الرائدة «زينب» وكتابيه التجديديين «حياة محمد» و»في منزل الوحي»، وغير بعيد عن البنا أيضاً جماعة أنصار السنة المحمدية ذات الاتجاه السلفي ورئيسها حامد الفقي، وبقربه أيضاً جمعية الشبان المسلمين بفكرها الجديد الذي لا يختلف كثيراً عن فكره وتوجهه. يجد حسن البنا نفسه هنا في مخاض مرحلة فكرية وسياسية جديدة تتشكل، فالخلافة العثمانية سقطت قبل ما يقرب من عقدين، ولم يبق للأتراك أثرٌ يُذكر في الحياة المصرية، ولكن بقي ما خلفته السياسات التركية ومواليهم من سلالة قصر محمد علي باشا من ديون والتزامات ومواثيق مع الإنجليز الذين استلموا مصر كرهينة مالية فأذلوا الشعب، وعاثوا فساداً فيه، وليست حادثة دنشواي 1906م إلا إشارة صغيرة محدودة للاستبداد والجبروت الإنجليزي على الشعب المصري، وربما كانت هذه الحادثة المؤلمة التي دوَّنها أحمد شوقي ربيب القصر وعدو المستعمر بقصيدته الخالدة وقود الثورة المصرية العارمة. في هذه الأجواء الفكرية والسياسية والشد والجذب بين تيارين قويين، أحدهما يدعو للحداثة والارتماء في أحضان الثقافة الأوروبية كما فعل طه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»، وأحدهما يدعو إلى الأناة في الانتقاء والتمسك بالأصالة كما فعل كثيرون، مثل: مصطفى صادق الرافعي في مقالاته وكتبه، ومصطفى المنفلوطي في مقالاته وقصصه، ومحمد رشيد رضا في المنار، وعباس محمود العقاد في مواقفه النقدية والفكرية رغم بعض الشطحات الغريبة! كان على البنا أن يبحث عن خيار آخر مختلف وسط هذه المعمعة من التجاذبات العنيفة؛ فرأى أن يقظة الأمة وتقدمها واستعدادها للتحول والتغيير ينبعث من داخلها؛ فعليه أن يربي ويهيئ وينضج ويبني ويعلي البناء ثم يوقد شعل التوهج والتحول من فُرْقة وتخلف واستعمار واستبداد وفساد وشتات مواقف وتراجع عن حمل الرسالة الإسلامية للبشرية إلى أمة قوية معتزة بذاتها قادرة على مزاحمة الحضارات الأخرى؛ فاهتم بالتربية، وجعلها اللبنة الأساس للانطلاق؛ فمن الفرد الواحد يتكون المجموع، وهذا ما أشار إليه في كتابه المنفستو «مذكرات الدعوة والداعية» من خلال سياق سيري تدويني دقيق، لكنه يعرِّف بصورة أدق بمنهجه وقضيته في كتابَيْن آخرَيْن مهمَّيْن، هما: رسالة المنهج، وقضيتنا. لم يكن حسن البنا في البدء سياسياً، ولا أراد - كما في المنفستو - أن تكون السياسة غايته، على الأقل وكما يبدو في المرحلة الأولى، ولا نعلم عما يخفيه مما لم يتكلم فيه في المراحل التالية لنشأة الجماعة. ومع كل هذا الصدود عن المواجهة السياسية المباشرة لم يدعه التسلط السياسي؛ فقد صدر أمر من النقراشي باشا بحل الجماعة ومصادرة أموالها وإقفال مراكزها وفروعها وإغلاق مجلتها. ليس هذا فحسب؛ بل صدر قرار بتصفيته بمباركة من الملك فاروق فقُتل غدراً في 12 فبراير 1948م. ولم يكن المؤسس الثاني للجماعة سيد قطب حين قال «إن دماءنا تتحول إلى عرائس» مجانباً الحقيقة؛ فقد زاد عدد الملتفين حول الجماعة، بعد كل حادثة قتل أو اغتيال أو تصفية، فعلى مدى أكثر من ثمانين عاماً قدمت الجماعة وقوداً متدفقاً من رجالها وشبابها في السجون والمعتقلات، بدءاً بحكومة النقراشي باشا في عهد الملك فاروق، ومروراً بصلاح نصر وحمزة بسيوني في عهد جمال عبدالناصر، وانتهاء بحبيب العادلي في عهد حسني مبارك. تعلمت الجماعة على مدى عمرها الطويل الصعب الكر والفر، وعجنت أريكة الصبر لتقطف الثمرة، وقد جاءتها شهية طازجة بعد عهود مريرة من الإذلال والقهر والمطاردة والسجون والمنافي، والثمرة الناضجة الجاهزة الآن هي موضع تساؤل هذا المقال بعد عرض شيء من سيرة الجماعة: هل جاء دور الإخوان حقاً؟! قلت في المقال السابق إن من جاء دورهم هم الفرس كما نعتهم أحد الإخوانيين الراديكاليين محمد سرور بن زين العابدين في كتابه (وجاء دور المجوس)، وقلت إن الإخوان وضعوا أنفسهم - تعجلاً للوصول - مطية لذوي المخططات اللئيمة، استعجالاً لقطف الثمرة، ولهاثاً وراء السلطة التي لم تكن غاية البنا من حيث البدء كما بدا في كتاباته؛ ومن أنضج مفهوم الإسلام السياسي كما يقول محمد سعيد العشماوي في كتابه المعنون بالاسم نفسه هو سيد قطب من خلال تفجيره النص الديني وتحميله ما لا يحتمل من حيث المفهوم، وإثقاله بالتأويل الذي يبيح للجماعة - عند أحد أجنحتها - أن تخرج حاملة السلاح ومتصدية لمن يريد أن يظل حكم الجاهلية قائماً! كما ينص على هذه المعاني صراحة في كتابه «معالم في الطريق» وكثير من المواضع في كتابه الآخر الضخم «في ظلال القرآن». سيخوض الإخوان المسلمون التجربة السياسية؛ فقد جاء الزمن الذي لا بد لهم فيه أن يجربوا كما جرب غيرهم من اشتراكيين وشيوعيين وقوميين وبعثيين وفشلوا، وها هم الآن يشكِّلون هلالاً إخوانياً في المنطقة العربية، بدءاً بالمغرب حيث رئيس الحكومة المغربية عبدالإله بانكير، وتونس حيث حزب النهضة ورئيسه راشد الغنوشي، وتركيا حيث العدالة والحرية ورئيسه رجب طيب أردوغان تلميذ نجم الدين أربكان مؤسس حزب الرفاه، ومصر حيث حزب الحرية والعدالة الناطق باسم جماعة الإخوان المسلمين، والداخل الآن في المنافسة على حُكْم مصر! والمتوقع أن ينجح الإخوان، وأن يصلوا للسلطة بأي مرشح كان؛ فالجماهير ملَّت حُكْم العسكر الديكتاتوري، وأخفقت الأيديولوجيات الأخرى؛ فلم يبق إلا أن يحكم الإسلاميون، لكن هل سيرعون وينقلبون على من رهنوا أنفسهم لهم غرباً أو شرقاً أم سيمالئون ذوي الأطماع الذين اتخذوهم مطية إلى أن يحققوا غرضهم منهم ثم يدعونهم يتهاوون إلى أن تلفظهم الجماهير؟! [email protected]