هذا الواقع المتطور لوزارة الداخلية والذي تأكد في كثير من القضايا كان آخرها قضية تبرئة الأكاديمي السعودي، يشير أيضا إلى أن الخطوات التطويرية لمرفق القضاء تتكامل لتصنع مشهدا عدليا سعوديا يواكب حالة النماء الاجتماعي التي باتت أكثر معرفة ودراية بحقوقها وواجباتها في كثير من دول العالم العربي، وحين تخسر وزارة الداخلية قضية ما أمام المحاكم، وهو أمر نادر الحصول يتحول ذلك إلى سر من الأسرار التي لا يفضى بها، بل قد لا يأخذ الحدث وضعه القانوني أصلا، ناهيك عن وضعه الإعلامي، ذلك الوضع كان مختلفا لدينا للغاية الأسبوع الماضي في قضية إعلان المحكمة لبراءة الأكاديمي الذي وجه له الادعاء العام تهمة تأييد تنظيمات إرهابية. طالما ظل القضاء السعودي وتحديدا في قضايا الإرهاب والتشدد والخلايا الإرهابية مادة واسعة للنقاش والأطروحات حول مدى استقلاليته، وظهرت الكثير من الآراء المتطرفة والحادة التي وصل بعضها للقول بأن قرارات المحاكم وتوجهات القضاة تدار من قبل وزارة الداخلية، ولم يكن من المنطقي التوجه لتفنيد تلك الأقوال وتلك الآراء عبر معارك إعلامية لسبب يسير وواضح هو أن الواقع كفيل جدا بتوضيح مدى مصداقية ما يقال. أعطى نظام القضاء الجديد وبحسب الصادر بتاريخ 19/ 9/ 1428، وبحسب مادته الأولى المزيد من الاستقلال للقضاء السعودي، والحرص على تفعيل تلك الاستقلالية في تزامن مع مشروع الملك عبدالله لتطوير القضاء، والذي يسهم في توجه المؤسسة القضائية السعودية لتكون في حالة تطور مستمر على مستوى الرؤية والكوادر والآليات والخدمات، ذلك أن القضاء يتجاوز كونه سلطة رئيسية في بناء الدولة ليصبح جزءا من استقرارها ونموها وازدهارها. لقد مثلت الحرب على الإرهاب مواجهة حقيقية بين الدولة والمجتمع من جهة، وبين الإرهاب فكرا وخلايا من جهة أخرى، ولقد لعب القضاء السعودي دورا محوريا في هذه المواجهة، وبخاصة منذ صدور نظام القضاء الجديد العام 1428، حيث استطاعت المؤسسة القضائية السعودية أن تقدم مسارات قضائية واضحة أسهمت بالفعل فيما يمكن تسميته بالأمن القضائي، مع أن قضايا الإرهاب والتعامل القضائي معها شهدت وتشهد جدلا حقوقيا وقضائيا في كل دول العالم. حين صدرت مسودة النظام الجزائي لجرائم الإرهاب وتمويله أخذت الكثير من المنظمات الحقوقية العالمية موقفا متشددا ورافضا لكثير من بنود وإجراءات المسودة، وكانت أبرز الجوانب استثارة للتعليقات تلك المتعلقة بمصير استقلال القضاء أمام هذا النظام مع العلم أن اللجنة التي عملت على تشكيل النظام لم تكن مشكلة فقط من وزارة الداخلية بل ضمت ممثلين من العدل والقضاء والادعاء العام والشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد، مما يعني أن العمل انطلق من رؤية متكاملة وفي ذات الوقت ظلت المسودة مشروعا متاحا للنقاش والبحث والتناولات الإعلامية والقضائية والحقوقية. لكن هذا ليس النظام الوحيد الذي يحظى بمثل هذا النقاش، فلقد شهدت قوانين وإجراءات مكافحة الإرهاب التي أصدرتها دول مثل الولاياتالمتحدة، ومثل بريطانيا نقاشا وجدالا واسعا، ووجهت المنظمات الحقوقية الكثير من النقد لتلك القوانين وأبدت مخاوف واسعة مما تراه انتهاكات محتملة لحقوق الإنسان جراء تلك الأنظمة، مما يعني أننا أمام واقع حقوقي وعدلي يشهد غالبا مثل تلك النقاشات، لكن المرجع الأخير لكل ذلك يتمثل في القضاء. لقد أبطلت المحكمة العليا في بريطانيا إجراءات وزارة الداخلية البريطانية التي تعتمد الاعتقال الاحتياطي المفتوح، وتم إطلاق سراح كثير من الإسلاميين الذين اعتقلوا بموجب هذا الإجراء، وفي الولاياتالمتحدة تقدمت محاكم فيدرالية بالطعن في أوامر رئاسية أمريكية تقضي بمحاكمة المقبوض عليهم في قضايا الإرهاب محاكمة عسكرية، وكل تلك الوقائع تشير إلى منطق تتكامل فيه الإجراءات الأمنية مع الإجراءات القضائية، وتلك العملية التكاملية تمثل بالفعل الضمانة الأمثل لحفظ الحقوق دون أن يؤدي ذلك إلى ثغرات أمنية. تشير المعلومات إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي تخسر فيها وزارة الداخلية قضائيا، بل شهدت أروقة المحاكم الكثير مما يعتبر واقعا سعوديا إيجابيا تؤكد فيه وزارة الداخلية أن أي خلاف على إجراءاتها يحظى بمرجعية واضحة للتقاضي وأخذ الحقوق والتعويضات. هذا الواقع المتطور لوزارة الداخلية والذي تأكد في كثير من القضايا كان آخرها قضية تبرئة الأكاديمي السعودي، يشير أيضا إلى أن الخطوات التطويرية لمرفق القضاء تتكامل لتصنع مشهدا عدليا سعوديا يواكب حالة النماء الاجتماعي التي باتت أكثر معرفة ودراية بحقوقها وواجباتها، مما يعني استمرار المسؤولية على جميع الأطراف بما فيها الطرف الاجتماعي للوصول إلى مناخ يلائم تطلعاتنا الوطنية القائمة على حفظ الحقوق والواجبات، وترسيخ القانون والنظام.. ذلك هو الاستقرار فعلا.