قابلت الدكتور المفكر، محمد بن حامد الأحمري، للمرة الأولى في ليلة صقيع باردة في مدينة "بولدر" الأميركية، ويومها كنا نؤسس لقواعد وعينا المعرفي ومع هذا أدركت من لقاء بضع سويعات أننا على طرفي نقيض قبل أن تعيدنا لبعضنا البعض، بعد سنين طويلة من اللقاء الأول، تحولاتنا التي قذفت بنا مع الزمن إلى مسافة متقاربة. والحق أن البعد الحسي المادي ونحن نعيش بعيداً في فجاج الأرض لم يسمح لي أن أكون معه إلا بما يقول أو يكتب. وحين يكتب محمد الأحمري فإنه يأخذك إلى نمط تحليلي خارج المألوف. أما حينما يتحدث فأنت لا تستمع إلا إلى شلال يبهرك صوته عن الاستماع لكل ما حوله. هو وحده قصة مختلفة في كل التحولات والظروف وحتى في المواقف وأكثر من هذا في القرار، وقد استمعت إليه قبل أيام يتحدث مباشرة من قلب الرياض عبر "روتانا" وهو يبرر حيثيات قراره الأخير بقبول جنسية جديدة. ومع هذا كان صادقاً شجاعاً وهو يقول بالحرف الواحد: إنه لم يتعرض في السعودية لأي تضييق في النشاط والكتابة والحضور والمحاضرة ولا فيما يقول أو يكتب. شعرت أن درجة حرارة جسدي ترتفع بدرجتين وهو يقول "إن اللحظة كانت تحتاج إلى تحليل من علماء النفس" وهو يجيب على سؤال المذيع عن شعوره وهو يكتب ورقة تنازله عن جنسيته. وبالنسبة لي، فإن الشعور يستعصي على الوصف لو أنني مكانه في كتابة هذه الورقة. أشعر بعدها أنني سأدخل في غيبوبة طويلة، مثلما أشعر أن أصابعي الثلاث ستذوب وهي تمسك القلم لتوقيع الورقة. هي ليست بالنسبة لي مجرد ورقة. إنها منعطف حياة ونهاية هوية. وأنا هنا أبداً لا أنتقد قرار فرد مستقل بقدر ما أصف الحق المشروع لي من شعوري كفرد مستقل آخر. ربما يكون الفارق ما بيننا هو الفارق ما بين المواطن العولمي وبين المحلي الخالص، ولكل فرد في الحياة قصة ظروفه، مثلما له قواه العصبية المختلفة في لحظات اتخاذ القرار الجوهري الحاسم. هو، كمواطن عولمي، ومثلما قال، لا ينظر لأوراق الهوية الرسمية، إلا على أنها أوراق سفر وبطاقات عبور ما بين الحدود، فيما هي لي كمواطن محلي بطاقات أمان لن أشعر بعدها بأي أمان حتى ولو ملأت جيبي بكل بطاقات الأرض. هو كمواطن عولمي، تنطبق عليه أوراق النصف الأول من كتاب إدوارد سعيد، (خارج المكان) وأنا كمواطن محلي أتماهى مع النصف الثاني من الكتاب بكل ما فيه من عصارة الخوف من المجهول وحتى وأنا كثير الترحال والسفر إلى بلاد الله الواسعة.. أشعر أن أقدامي لا تلامس الأرض، وأن رقبتي دائماً تنظر للوراء مثل الطريد. لا أستعيد توازني إلا حينما أعود، ولا أشعر بالجاذبية إلا بعد ختم الجواز داخلاً لهذه الأرض.