طلعت علينا صحيفة الاقتصادية بقصة الرجل السبعيني محمد ناصر أبو شريفة الذي يقيم هو وعائلته في مقبرة منفوحة. حيث يسكن في «بيت» مغطى بسقف خشبي ويتنفس هو وعائلته الهواء الضار الذي أفسده الصرف الصحي. ولا تسل عن صحة أطفال هذا البيت عندما يكبرون. رجل في مثل هذه السن يعيش مع زوجة وتسعة أطفال في خرابة بمقبرة ونحن من أغنى بلدان العالم؟! أهكذا نسمح لكبار السن من أهل وطننا بأن يقضوا خريف العمر؟ تقول القصة إن أبناء هذا الشيخ أبو شريفة قد هجروا المدرسة كلهم بسبب الخجل الذي يشعر به هؤلاء الأطفال من مكان سكنهم، وبسبب تعيير زملائهم لهم بأنهم «سكان المقبرة»! أين هي مدارسهم؟ ولماذا لم يسأل عنهم مديرو هذه المدارس ولماذا لم يتحروا عن سبب تركهم للمدرسة بنفس الدرجة من الحماس التي يرفع بها مديرو المدارس التقارير عن «مجموع الدقائق» التي تأخر فيها المدرسون عن الحضور للمدرسة خلال كل شهر؟ المشكلة ليست مشكلة دقة، بل مشكلة معايير أخلاقية وحس إنساني، عندما فرطنا في الثابت وجعلنا كل شيء نسبياً. وإن كانت تلك المدارس قد تحرت وعرف مديروها السبب، لماذا لم يرفعوا لوزارة التربية والتعليم بالقصة وتداعياتها؟ ولِمَ لم تشكل لجنة تتوجه لبيت تلك العائلة لحل مشكلة هؤلاء الأطفال الذين حرموا من حقهم في التعليم ونحن في زمن يعتبر فيه الحرمان من التعليم جريمة؟ الفقراء والمعدمون في المملكة العربية السعودية حقيقة واقعة، فالتقارير تتحدث عن 22% من السعوديين قد استحقوا لقب «فقير» أما الفقير «بامتياز» ومن يعيشون تحت خط الفقر فقد تجاوزوا الثلاثة ملايين إنسان وإن كنت أعتقد أن الأرقام أكبر مما ورد في تلك التقارير! وإذا كنا قد وجدنا من يعيش في مقبرة بالرياض فما بالك بحال الناس في المجاردة وأحد المسارحة وضواحي جيزان؟ ما بالك بشمال المملكة ومن يسكنون في «الصنادق» ما بين رفحاء وعرعر أو انتقلت لسكاكا الجوف؟ بل في قرى نجد التي لا تبعد عن الرياض كثيراً عندما تخرج بسيارتك في رحلة برية سترى الفقر والحاجة اللذين لا يتناغمان إطلاقاً مع مواطنة الدولة التي تملك أعظم احتياطي للبترول في العالم، التي ينظر لها على أنها منقذة العالم في زمن الركود الاقتصادي، التي يصل دخلها اليومي من البترول لقرابة المليار دولار يومياً. ناهيك عن صادرات المملكة الأخرى والثراء الفاحش الذي تعيش فيه شريحة صغيرة من السعوديين. إننا في المملكة نملك إيماناً عميقاً بالله ورحمته وكذلك لدينا إيمان بصدق نية قيادتنا السياسية في القضاء على الفقر وإنهاء هذه الفواجع الموجعة للقلب. لكن المشكلة الأساسية تكمن في هذا الفساد الإداري المطبق الذي جعل حق الفقير مثل قالب من الثلج الذي تمسك به يد فتعطيه التي تليها فيمر على عشرين يدا قبل أن يصل لصاحب الحق وقد تحول القالب عندها إلى نقطة ماء صغيرة جداً لا تروي ولا تغني من جوع. إن الحل من وجهة نظري يكمن في إحياء الدور الرقابي في أجهزتنا التنفيذية وإعطاء الصلاحيات لمن عرفت عنه النزاهة والاكتفاء ولمن لم يعرف عنه الجشع المجرم الذي نراه اليوم، فوطننا لن يخلو من النزهاء الأكفاء. وهؤلاء الموظفون الذين وضعتهم الدولة لخدمة المواطنين يجب أن يراقبوا ويحاسبوا، من الوزراء فمن دونهم، وكل من يثبت تقصيره يجب أن يحاكم ويبعد عن منصبه بحيث توضع الأمانة في يد الجدير بها. لا بد من وضع حد لهذا الجشع الرهيب الذي يطمع حتى في حق الأرامل والأيتام ولو أتيحت له الفرصة فلن يتردد لحظة في ابتلاع حقوقهم كلها بدلا من اختلاس بعضها. هناك جشع كريه ومجرم يعتور أرواح الناس في هذه الأيام. لقد فقد الناس أرواحهم في ظل هذه النظرة المادية للعالم والكون والأشياء. كل شيء أصبح مزيفاً، حتى الدين زيفوه وأصبحوا يجدون فيه مبرراً -شرعياً بزعمهم- للسرقة والاختلاس والارتشاء وكل جريمة تخطر ببالك. لقد غاب استشعار الناس لقدر الله والحياة ما بعد الموت وانعكاس ما فعلوه في هذه الحياة على حياتهم الأخرى. لقد ضعف إيمان الناس، وهذا ما جعلهم بهذه الصورة الجشعة البشعة المقيتة. وإلا فأين إيثار المؤمنين لبعضهم، وأين الأخوة وأين المشاركة في الطعام والملبس والمسكن الذي عاشه المهاجرون والأنصار في زمن الرسالة؟ سامحنا يا شيخ محمد أبو شريفة فقد تغيرت النفوس.لقد ذهب هذا كله.لقد أصبحنا في خُلف يسخرون من كل شيء ولا يحترمون أي شيء ولا يقف جشعهم عند شيء!