محمد بن عيسى الكنعان - الجزيرة السعودية بعيداً عن حملة التشكيك التي أطلقها مجموعة من الكتاب والمثقفين العرب، سواءً من اليساريين أو الليبراليين حول مدى قدرة الإسلاميين على إدارة الدول العربية، التي شهدت انتخابات برلمانية فازت فيها الأحزاب الإسلامية وحق لها تشكيل حكوماتها بعد ثورات الربيع العربي، أقول بعيداً عن ذلك التشكيك الذي يعكس حالة الارتباك والصدمة التي لازالت تعيشها الأحزاب العريقة في المنظومة السياسية العربية من يسارية وتقدمية وليبرالية، فإن الطريق أمام الإسلاميين على الأقل في مصر وتونس والمغرب ليس معبداً بالنجاحات السهلة أو الفرص الكثيرة، أو خالياً من التحديات الداخلية والاعتبارات الخارجية، بل هو طريق شاق وطويل، ومليء بالألغام السياسية والمعوقات الاقتصادية والإخفاقات التنموية والإشكالات الاجتماعية، فهم ليسوا في نزهة انتخابية أو إدارة محلية أو تنظيمات حزبية أو انتخابات نقابية أو طلابية في إحدى الجامعات، ولكن إدارة دولة من خلال حكومة، ما يعني أن الإسلاميين في مأزق حقيقي.. بين حداثة التجربة وهاجس الفشل. حداثة التجربة تتمثل في كونها المرة الأولى التي يُشكل فيها الإسلاميون حكومة فعلية لإدارة البلد بعد عملية انتخابية حقيقية تجسدت فيها كل متطلبات الديمقراطية الفعلية، سواءً من واقع حجم المشاركة الشعبية، أو آلية التنفيذ، أو النزاهة الانتخابية، أو تكافؤ الفرص والحضور بين جميع الأحزاب والشخصيات المستقلة، على اعتبار أن التجارب التي خاضها الإسلاميون في فلسطين أو السودان أو الجزائر أو أفغانستان غير قابلة للقياس للدلالة على تجربة الإسلاميين في إدارة شئون الدولة، ففي فلسطين أُقيلت حكومة حماس بعد فوزها بالانتخابات عام 2006م، فاستدركت نفسها بالسيطرة على غزة بعد فضيحة ما يعرف بمخطط دايتون، وفي السودان عام 1989م كانت الحكومة أقرب للعسكر بواقع انقلابها على الديمقراطية وإن كان قادتها ينتمون للجبهة الإسلامية القومية، وفي الجزائر أُجهضت العملية الديمقراطية برمتها بعد فوز جبهة الإنقاذ عام 1991م في مشهد لا ينساه العالم، أما في أفغانستان التي يراها البعض في حكومة إسلامية هي حركة طالبان، فليس هناك دولة أصلاً خلال سيطرة هذه الحركة في النصف الثاني من عقد التسعينيات الميلادية. إذاً الظروف السياسية والأوضاع الاقتصادية لم تكتمل في مناخ ديمقراطي سليم بالنسبة للحالات المشار إليها، التي طالما وضعها الليبراليون واليساريون نماذج لفشل الإسلاميين. في المقابل قد يكون القياس منطقياً على التجربة التركية، أي حكومة أردوغان وحزب (العدالة والتنمية) الإسلامي، الذي فاز ثلاث مرات متتالية، وحقق معدلات تنموية عالية للاقتصاد التركي، ولكن الإشكال هنا، أن هذه التجربة ليست عربية، فضلاً عن البعد الحضاري الذي يتمتع به الأتراك مقارنة بالعرب، من حيث الممارسة الفعلية للعملية الديمقراطية وفهم متطلباتها واشتراطاتها الانتخابية، ناهيك عن الثقافة البرلمانية العامة لدى الشعب التركي. وبهذا فإن الأحزاب الإسلامية (العربية) تعتبر حديثة تجربة وفق المعطيات الجديدة في المشهد العربي، بزوال أنظمة جائرة، وتنظيم انتخابات حرة ونزيهة، ومشاركة شعبية عارمة، وتكافؤ فرص لجميع الأحزاب، ومراقبة دولية مستمرة. بل إن التباين الواضح في تصريحات بعض قادة الأحزاب الإسلامية الفائزة في أكثر من بلد عربي حول أولويات عمل الحكومة تدل على حداثة التجربة فعلاً، لدرجة أن أحزاباً كشفت عن أوراقها السياسية وموقفها من الاتفاقيات مع إسرائيل بسذاجة، بينما أخرى ركزت على الملفات الكبرى وأهمها الأمن والفساد، مؤكدةً عدم المس بالحريات العامة، خاصةً في الملبس والمشروبات الكحولية، لدرجة أن كتابا إسلاميين اعتبروا ذلك (علمنة). أما هاجس الفشل فهو طبيعي لمن يُدرك حجم المهمة وعظم المسئولية، بل إن حلاوة النجاح لا تأتي عادةً إلا من مرارة الفشل، كما أن كل تجربة جديدة مهما امتلكت من خبرات ومعارف ووعي، تبقى بالقرب من دائرة الفشل وفي مرمى الإخفاق ما لم تتعامل بمنهجية حضارية وممارسة متزنة يكون همها المصلحة العامة وليس الحزبية الضيقة، فما بالك بوجود المتربصين من الخصوم السياسيين أو المناوئين الفكريين، الذين قطعاً لا يهمهم مصلحة الوطن بقدر ما يهمهم أن تفشل التجربة العربية الإسلامية. لذلك من الغباء أن يتصور الإسلاميون أن انتماءهم الفكري واعتزازهم الديني وقاعدتهم الشعبية ستحميهم من السقوط، أو أن تمنحهم تبرير الإخفاق أو أن تسكت على ذلك، لأن الجماهير أصبحت تعي تماماً أن (الإسلامي) حزباً كان أو مرشحاً أو رئيساً لا يمثل الإسلام، بل تعتبر إساءة العمل أو سلبية أدائه أو فساده هو ضد الإسلام الحقيقي، يقول الفاروق عمر بن الخطاب: (لا نسب مع الله إلا بالطاعة)، وهي جملة بليغة تختصر مجلدات في فهم العمل وتطبيقه. بمعنى أن تفهم الأحزاب الإسلامية أن عملها مرهون بالنوايا الصادقة والإخلاص في الأداء والمنفعة العامة، وليس لمجرد الوصول للسلطة والتحكم برقاب الناس، وقبل ذلك ينبغي أن تفهم أن فشلها يعني أنها أساءت للدين الذي تنطلق من قيمه ومبادئه، وقدمت لأعدائه الحجة على أنه ليس منهجاً للحياة أو نظاماً للدولة.