* (قد) تستطيع أن تغفر لمن أخطأوا.. ولكن أبدا لن تنسى أسماءهم! وصلني فيلم من هواة، قصير: ترى الأزقة في مدينة تُسمى عروس البحر الأحمر، إنها جدة التاريخية، المدينة الأكثر احتكاكا مع العالم العصري الخارجي منذ عشرينيات القرن الفائت، بوابة الحرمين الشريفين، يفد لها كل مسلم في الدنيا؛ لذا في العالم الإسلامي ثالث أشهر مدينة هي مدينة جدة، بعد مكةوالمدينة. الأزقة ضيقة ومتربة، والبيوت تظهر أساساتها المتآكلة، والأطفالُ يلعبون حفاة في غبرة المسالك والممرات وبعضهم يدلف ويخرج من البيوت ذات الأبواب المفتوحة، فرغم ضيق وغبرة المنطقة إلا أن أهلها ما زالوا يؤمنون بترك أبواب بيوتهم مفتوحة.. ربما لأن قلوبهم مفتوحة، أو ربما لأن ليس في داخل البيوت ما يغري كي تغلق دونها الأبواب. ثم من أول إطار الصورة تظهر بالوناتٌ زرقاء تتطاير فوق البيوت التعبة، أو تصطدم بين جدران غير منتهية الطلاء والطوب المكشوف، وبين السيارات الكالحة المركونة تحتك بجدران البيوت.. والأطفالُ يجرون يحملون بعض تلك البالونات، وتعجَبُ كيف يخترع الأطفال الحماسة الفَرِحة حتى عندما لا تكون موجودة؟! وبعد ذلك تشعر بشيء مهيب صامت. تبدأ تدخل في الصورة مجموعات شبابية وكلهم يرتدون لباسا باللون الأزرق أو يعتمرن أوشحة بذات اللون، ويمرون عبر المزالق الضيقة والأتربة صامتين وكان جلالا يحيطهم، وكأن هذا الجلال يغمره ذكرى حزن دفينة. لم يتكلموا، لم يرفعوا لوحات، لم تعلوا لهم صرخات أو هتافات، وإنما مروا كمن يتأمل بخشوع مستذكرا ماضيا قريبا.. يمرون مثل طقس ديني لبعض الفئات الدينية التي تسير بمواكب خاشعة صامتة بدون أن تنبس بحرف، وبدون أن تعمد لحركة الأطراف أكثر من آليتها الطبيعية.. إنهم لا يلتفتون ولا يتجاورون كلٌ يسير وكأنه بموكب لمفرده، كل منهم يحمل ذكراه وأحزانه الخاصة به، لا يلتفت أحدٌ على أحد، ويتابعون مع ذلك السير لا تكاد تشعر الأرض المغبرة بوطئهم، وكأن أنفسَهم الحساسة أضافت خفة روحانية على مادتهم الحية فلم يعد يشعر أديم الأرض بوطئها.. إنك تطالع المشهد، ولا تدري لم تخترق عيناك أسهمُ الدموع حارقةً؟ وتتساءل ما القصة؟ ما الذي يجري في هذا الفيلم الصغير؟ وما هذا الذي يعتملُ في كيمياء أعصاب كيانك المادي فيرسل جيشا متدافعا من الدموع إلى مآقيك؟ ثم أن مشاهدَ ومعلوماتٍ مدفونة بسطح خفيف من غبار تكاثرِ الحوادث تبدأ تطفوا رويدا على سطح الذاكرة.. ثم تنكرها بنفسك الواعية المنطقية وتقول: لا، غير معقول! من أين أتيت لي لنفسي بهذا الاستنتاج؟ ليس هناك ما يوحي أبدا بمناسبة هذا السير التأملي الطقسي المكلل بحزن غامض وذكرى ماثلة فوق الرؤوس.. ولكن كشيءٍ كبير غارق في الأعماق بدأ الشكل الطافي الضخم يتجلى في ذاكرتي وفي وعيي.. وبدأ واضحا كل الوضوح، ساطعا بمشهديته المريعة.. وتكامل بشكل عجيب ومهيب: سيول جدة قبل عامين!.. كيف علمت.. والله لا أدري إلا أن تلك المواكب السائرة بطيفية آسرة بصمتها المطبق وبلونها الأزرق وبوالينها الزرقاء والمحال والأحياء كلها تضافرت لتؤكد أن المجموعات الشبابية الزرقاء كانت تُذكي حدَثا لا تريد أن تنساه، ولا تريد أن تنسى ضحاياه، وذهبت بطقسها الاستعادي الأخاذ لتضع ختما بالتاريخ يقول: نحن معكم يا من تضررتم بالسيل، نحن لا ننسى من غمرهم السيل.. ولم يكن الحدس ليخطئ.. وعجبت لشبيبة تتخذ طريقا مؤثرا بدون صوت، بدون تظاهرة، بدون شغب، بدون لافتات.. يدبون على الأرض دبيب ضمير الأرض. ويقدمون مشهدا شاهقا بعاطفته ووضوحه. ينتهي الفيلم القصير مع آخر رأسٍ موشح بالزُرقة يغادر الأزقة المتربة بأبنيتها المُجهَدة.. ثم تخرج سطور: ذكرى سيول جدة.. لن ننسى، لن نسامح!