حين نتحدث عن ولادة وطن، فإننا في الحقيقة نتحدث عن ولادة مواطنين؛ إذ إن الوطن الجيّد هو الذي يسكنه مواطنون جيّدون، ومما لاشك فيه أن الثورة السوريّة المباركة قد أدخلت تغييرات واسعة وعميقة على طيف واسع من السوريّين، حيث يشعر الكثيرون منهم بالدهشة حيال ما تمّ إنجازه على صعيد الوعي وعلى صعيد الاهتمامات والعلاقات.. إن سورية ما بعد الثورة قد اختلفت فعلاً عن سورية ما قبل الثورة؛ حيث أزيل الكثير من الغبار عن الجوهر الأصيل لأعداد هائلة من الصغار والكبار. لاشك أن التغيير العاصف لم ينل من جميع السوريّين، وإنما نال كل صانعي الحراك في الشارع، وكل أولئك الذين يدعمونهم، ويتعاطفون معهم في الداخل والخارج، وهؤلاء يشكلون الكتلة الحرجة المطلوبة لبدء عهد جديد وإطلاق قفزة حضاريّة جديدة. أنا لا أستطيع هنا أن أشير إلى كل ملامح الوطن الجديد، ولذا فإنني سأكتفي بأهمها في إشارات موجزة: 1 وحدة الانتماء: المعروف عن الإنسان السوري نموّ معاني الفرديّة في شخصيّته، كما أن المجتمع السوري زاخر بالانتماءات الضيِّقة التي تحدّ من سطوع الانتماء الوطني العام، لكنّ الثورة أشعرت الجميع بأنهم يركبون في مركب واحد، وأن عليهم العمل كي يصل ذلك المركب إلى شطّ الأمان، وهذا ظاهر في تعبيرات المثقفين المتعاطفين مع الثورة، وظاهر في شعارات المتظاهرين. 2 الاهتمام بالشأن العام: جوهر المواطنة تكمن في القدرة على التضحية بشيء من المصالح الشخصيّة من أجل مصلحة الوطن والمواطنين وقد كان، معظم السوريّين قبل الثورة غارقون كما هو شأن معظم الناس في قضاء حاجاتهم وتحقيق آمالهم الشخصيّة، لكن بعد الثورة اختلف الأمر؛ إذ إننا نجد اليوم مئات الآلاف من الشباب والكهول الذين يبذلون جهودهم وأموالهم، وينشغلون عن أعمالهم الخاصة في سبيل مساعدة الثورة على النجاح، ويكفي أن تلقي نظرة خاطفة على الإنجاز الإعلامي المتعلق بالثورة لتتأكد من حجم المشاركة التطوعيّة التي تمّت، وتتم الآن. 3 التفاؤل بالمستقبل: النظام السوري نشر اليأس في ربوع البلاد من خلال الضغط الرهيب الذي يستخدمه في تطويع الناس لأيدلوجيّته ونظمه ومصالحه، وقد كان معظم السوريّين يشعرون بأنه من الصعب أن يكون لسورية مستقبل باهر يترجم الإمكانات الكبيرة التي يتمتع بها البلد، أما اليوم فإنّ من المثقفين السوريّين من يشتغل على بلورة رؤى استراتيجيّة للنهوض بسورية خلال العشرين سنة القادمة. إنهم يعتقدون أن الحريّة التي يعملون على انتزاعها ستتيح لهم إطلاق طاقات هائلة في تحسين أوضاع البلد والارتقاء بها في المجالات كافة. 4 الالتفاف حول الأهداف الكبرى: كانت الفرقة هي سيدة الموقف، وكانت التفاصيل الصغيرة قادرة دائمًا على طمس القواسم المشتركة والأهداف الكبرى، وكان هذا سائدًا لدى كل التيارات والفئات، لكن الأمر اختلف اليوم حيث نجد إن الثورة جعلت كل الجماهير المنتفضة تطالب بالحريّة والتعدديّة واحترام حقوق الإنسان إلى جانب إقامة العدل وإشاعة تكافؤ الفرص... وهذا في حدّ ذاته إنجاز كبير؛ لأن الغرق في التفاصيل وعدم تحديد المطلوب بدقة هو الداء الدويّ الذي يفتك بالأمم في عهود التخلف. 5 الوعي بالذات: استطاعت الثورة أن تجعل كل واحد منا يقف أمام المرآة ليرى إيجابيّاته وسلبيّاته، نعم إن الثورة قامت بعملية فرز وتعرية ضخمة جدًا حيث بدا واضحًا للعيان المدن التي تقود الثورة والمدن التي تتحرك على استحياء، كما صار واضحًا أن من الأشخاص من يمكن أن يعطوا الكثيرالكثير، ومنهم من يعطي إلى أجل محدود، ثم يملّ وينصرف إلى شأنه الخاص، كما أن من الناس من يقف موقف المتفرّج فإذا جاء وقت قطف الثمار وجدته في المقدمة! إن التغيير الهائل الذي أحدثته الثورة في عقولنا ونفوسنا هو مصدر استبشارنا بنصر الله تعالى ومعونته؛ فالله تعالى يغيِّر للناس ما لايستطيعون تغييره إذا رأى منهم الحرص على تغيير ما يستطيعونه. ولادة وطن تعني بداية نهضة وانبثاق فجر حضاريّ جديد، وهذا ما نرقبه من الرحمن الرحيم.