لا نكاد نختلف في أن الثورة السورية قد بلغت نقطة (اللاعودة)؛ إذ إنّ من الواضح أن عزيمة الثّوار تزداد صلابة يومًا بعد يوم، كما أن تنظيمهم لأنفسهم ووعيهم بمطالبهم، في تحسّن مستمر، ويقابل ذلك ضعف متزايد في قبضة النظام على الحكم ونوع من الحيرة في مواجهة المدّ الشعبي المتنامي. ويمكن أن أقول: إنّ الإيجابيّات التي ولَّدتها الثورة في نفوس السوريّين تفوق كل التوقّعات، ولو أن عشرة آلاف مربٍ وموجِّه عملوا على النهوض بالذات السورية عشرين عامًا لما استطاعوا أن ينجزوا (5%) مما أنجزته الثورة السورية المباركة، وهذا على صعيد الوعي والتحرّر من ربقة الطّغيان، وعلى الصعيد الروحي والخلقي أيضًا، وأنا أعتقد أنه لم يمرّ على السوريّين يوم كانوا فيه أفضل تلاحمًا وتضامنًا، وكانوا فيه أقدر على التضحية من هذه الأيام، والفضل في هذا يعود أولاً إلى الله تعالى ثم إلى تيار التغيير الجارف الذي يجتاح العالم العربي هذه الأيام. ثوابت الثورة: الثورة السورية ليست ثورة من أجل التحرر من الظلم والفساد وحسب، وإنما هي ثورة من أجل البناء والتقدّم أيضًا، ومن ثم فإن بلورة الثوابت بالنسبة إليها تُعدّ مسألة في غاية الأهمية، ولعل من أهم ما تبلور من ثوابت الثورة السورية خلال الأشهر الثلاثة الماضية الآتي: 1 السلميّة: سلميّة الثورة وجنوحها إلى التظاهر والاحتجاج، أي إنكار المنكر من خلال القلم واللسان أهم ثابت من ثوابت الثورة؛ فقد حرص الثوّار من أول يوم على الإعلان عن أن حراكهم سلمي بامتياز، ومازالوا يحتفظون بهذا على نحو جيّد، وبما أن الثورة هي تيار إصلاحي عريض جدًا، وليست تنظيمًا، فإن من المتوقع في هذه الحال أن تحدث بعض الحوادث الفردية التي لا تعكر المزاج العام للثورة. إن بعض الناس لديهم أسلحة فردية، ووجدوا أنفسهم أمام جند يذلّونهم ويضربونهم أمام أطفالهم، ومن الناس من وجد من اقتحم منزله وأخذ في نهبه وسلبه، وبعضهم... فهؤلاء قد يلجؤون إلى استخدام أسلحتهم للدفاع عن أنفسهم وأموالهم، ومثل هذه الحالات لا شأن للثورة بها، وإن كنّا نرجو أن يبقى هذا عند الحد الأدنى مهما كان ممكنًا. 2 ثورة للجميع: الثّورة السورية ليست ثورة طائفة أو منطقة أو حزب أو جماعة، إنها ثورة يقوم بها السوريون جميعًا من أجل جميع السوريين؛ فقد اكتوى كثير من الناس عبر العقود الأربعة الماضية بنيران الطائفية الممنهجة، وذاقوا مرارة التعامل على غير أساس المواطنة، ولهذا فإنهم ليسوا مستعدين لتكرار الخطأ القائل الذي وقع فيه النظام، وأعتقد أن الثوّار قد أكّدوا بكثير من الوسائل، ومازالوا يؤكدون على (لاطائفية) الثورة، ونحن نرجو أن يستمر هذا المنهج، ويُرسَّخ، ولاسيما بعد أن رأينا ويلات الطائفية في العراق ولبنان... إنّ على الثوّار وقياداتهم الفكرية والسياسية إرسال المزيد من رسائل التطمين لكل الأقليات في البلد، بأن الذي نريده ليس هدم نظام، بل إقامة نظام جديد قائم على العدل وتكافؤ الفرص، إلى جانب الرحمة والإحسان، وتعزيز السلم الأهلي، والتعاون والنظر إلى المستقبل بتفاؤل، ومواساة جراح الماضي بأكبر قدر ممكن من التسامح. 3 رفض التدخّل الخارجي: كلّ الثّورات الأصيلة والعظيمة ومنها الثورة السورية تعتمد في أدائها وإنجازها على المكوّنات الداخلية، وذلك لأنّ الثّورة لا تكون حقيقيّة إلاّ إذا نبعت من معاناة الملايين الذين يشعرون بالظلم والمهانة، وهذا موجود بامتياز في الشام الجريحة، ولا بد من القول: إن التدخّل المرفوض هو التدخل المادي والعسكري، فالثوّار يرفضون أي مساعدة تأتي من أي حكومة أينما كانت، ومهما كان قربها من البلد، أو بعدها عنه، لكننا جميعًا نرحِّب بالدعم المعنوي للثورة حتى تستكمل مسيرتها، كما نرحب بالضغط السياسي والأدبي على النظام كي يوقف آلة القتل، ويعمل على إيجاد مرحلة انتقالية يعود فيها الوطن المخطوف إلى أبنائه و أهله. إنّ الثوّار في سورية يملكون كل الإمكانات والمؤهّلات لجعل ثورتهم مُلهِمِة لكثير من دول العالم، وهم ماضون في هذا، وإنّ المطلوب من جميع المثقفين المساعدة على ذلك؛ فعالم اليوم في أمسِّ الحاجة إلى النماذج الإصلاحية التي تحقق النجاح المأمول بأقلّ تكاليف ممكنة. والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.