لم يكن من السهل تغيير ثقافة عامة منتشرة وأمر مألوف لدى الناس بتقديم القرابين البشرية استرضاءً للآلهة المتوهمة، وتسكيناً لغضب الطبيعة التي عبدها الناس في حضارات الزمن القديم اليونانية والرومانية والفرعونية وغيرها، إلا بمعجزة خارقة وقدوةٍ بالغة الحجة مقنعة، جاءت عبر أبي الأنبياء ابراهيم عليه السلام حين رأى في المنام أنه يذبح ولده، الذي انصاع للذبح دون تردد باعتباره أمراً إلهياً، وكأن الوالد يحدثه عن شجرة يابسة يريد قطعها مخاطباً إياه: افعل ماتؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين. وكانت تتمة التغيير بالفداء الرباني له بذبح عظيم بديل عن اسماعيل عليه السلام، الذي شكل تغييراً تاريخياً في حياة الناس أجمعين باستبدال التضحية بالإنسان أياً كان بالحيوان الذي يذبح في وقت معلوم تخليداً لحدث تاريخي في التاريخ الإنساني بإلغاء القرابين البشرية لآلهة مزعومة ومتوهمة. ورغم أن الناس بعمومهم يزعمون الإيمان بالله وحده، وأن ابراهيم أبوهم الذي التقت عليه الديانات السماوية التي قدّست حياة الإنسان وكرمته ومنها الإسلام الذي جعل زوال الكعبة حجراً حجراً أهون من قتل امرئ مسلم، فإن مانشهده من إراقة للدماء في سوريا بات أمرأً مألوفاً عند القتلة، وبآلاف المناظر المروّعة والرعيبة ليوتوبات وفيديوهات يذبح فيها الناس أطفالاً ونساءً ورجالاً لمطالبتهم بالحرية والكرامة، وكأنهم يُقدَّمون قرابين لآلهة مزعومة من شعارات كاذبة مضلّلة وزعامات قامعة وقاتلة على فالق من الأرض تتهددنا بالزلازل والدمار وتتوعدنا بالحريق وخراب الديار، إحياءً لثقافة ماتت واندثرت وإرضاءً لأصنام بشرية في الشام وكأنها تريد أخذنا إلى ماقبل آلاف السنين من وهم الخرافة وشعوذة الآلهة. روح الأضحى وحقيقته الحفاظ على حياة الإنسان وكرامته أياً كان، ولكن واقعنا يشير إلى إحياء الطقوس والمظاهر، وقتل الروح التي كانت من أجلها التضحية. ومن ثم فليس عبثاً أن يأتي وقوف ملايين الناس في عرفات بالتزامن مع عيد الأضحى من كل عام من مختلف الثقافات والألسنة في تظاهرة سلمية كبيرة يلبسون فيها ثياب الإحرام والتجرد، يُحرّم عليهم أي شكل من أشكال العنف بحق الإنسان والحيوان وحتى النبات، وتتجسد بينهم قيم المساواة الإنسانية، تأكيداً على نموذج للحياة البشرية تستلهم منه درس المحبة والمؤاخاة والسلام، وهم يسّمعون في فضاءات الموقف صدى الإعلان النبوي الإنساني والعالمي في خطبة الوداع في عرفات: أيها الناس إن دماءكم وأعراضكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم. وعليه، فإن ما يريد النظام السوري بما آل إليه إعلان حربه على شعبه أن يقنعنا به أن الأرض محمولة على قرن ثور وأنه مزلزلها، وأن الآلاف التي قتلها وقضت في سبيل حريتها وكرامتها هي ضحايا العصابات والتآمرات من المندسين والمندسات، إنما هي قرابين استقرار سلطته وسلطانه والعائلة المقدسة، ويريد أن يبقينا في عهد الزعيم الأب المقدس والابن القائد الأشوس، القائم على فالق من الأرض والممسك بسوريا الأرض والناس أن تزول. ولكن هل يستطيع أن يقنع السوريين بالبقاء معه بهذه الخزعبلات والضلالات وقد خرج ماردهم من قمقمه بعد أكثر من أربعين عاماً من القهر والاضطهاد والنهب والفساد محققاً أروع وأنبل الأمثلة في العصر الحديث لثورة قرر معها السورييون إسقاط النظام ورحيله ومهما كانت القرابين والتضحيات.