د. عبد العزيز الغدير - الاقتصادية السعودية من المعروف في علم التخطيط الاستراتيجي أن القوة الدافعة (مميزات مالية أو بشرية أو تقنية أو ثروات طبيعية أو جغرافية ... إلخ) لأي دولة تعتبر من أهم منطلقات بناء الخطة الاستراتيجية لأي دولة لتتمكن من تحقيق الرفاه والحياة الكريمة لمواطنيها، وبالتالي فإن أي خطة مضادة من أي دولة أخرى منافسة أو معادية بهدف منعها من تحقق رؤاها ورسالتها وغاياتها ستركز على تشتيت قوتها الدافعة أو السيطرة عليها بصورة أو بأخرى لتوجيهها إلى حيث تريد سواء بتحييدها أو لدعم خطط وتوجهات الدولة المنافسة أو المعادية وهو ما نجحت كثير من الدول في تحقيقه على حساب دول قوة دافعة مميزة أو متفردة. والتخطيط الاستراتيجي الحقيقي لا بد أن يشتمل على مناورة يتم تصميمها وصياغتها بدهاء لمباغتة ومفاجأة الأعداء أو المنافسين لتحقيق التفوق عليهم، ولكون المناورة يجب أن تكون مباغتة فلا بد أن يكون لها مدخل استراتيجي مموه ذكي يشي بغير المقصود أو المستهدف وعادة ما يكون هذا المدخل ذا بعد عاطفي يثير الاهتمام ويحرك الجموع نحو الغاية المستهدفة دون علمهم ظناً منهم أن الجهة المخططة تستهدف ما يريدون في حين أنها قد تستهدف العكس تماماً. والتخطيط الاستراتيجي يمكن أن يكون طويلا أو متوسطا أو قصير المدى (هناك خلط وتشابك بين الاستراتيجية والتخطيط طويل المدى)، ويمكن أن يكون استباقياً ويمكن أن يكون لاحقاً لإدارة أزمة وقعت يمكن أن تكون لها أضرار كبيرة على الدولة أو المنشأة إذا لم يتم التعامل معها بطريقة استراتيجية ذكية. هذه مقدمة فكرية رغبت أن أضعها في الخلفية المعرفية للقارئ الكريم لكي نصل معاً إلى تصور لمستقبل الاقتصاد في العالم العربي الذي نحن جزء منه نتيجة متغيرين مهمين هما السياسة والثقافة، والتي تشهد الأولى منهما تحولات جذرية متسارعة بما أطلق عليه ""الربيع العربي""، بينما تشهد الثانية تحولات متسارعة أيضا لدى جيل الشباب العربي وأخرى بطيئة في الأجيال السابقة الأمر الذي ولد فجوة ثقافية مهولة بين الأجيال العربية الأقل عدداً والأكثر تأثيراً كل من موقعه والأجيال الشبابية الأكثر عدداً والأقل تأثيراً فيما سبق، التي بدأت تتحرك شيئاً فشيئاً نحو قيادة دفة التأثير تحت مسمى ""الشارع العربي"" الذي نظمته وأعادت تشكيل وعيه وعززت إرادته وقوته الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي على حساب النخب والقوى الإقليمية المؤثرة. ما من شك أن الغضب الشعبي العارم في معظم الدول العربية خصوصاً تلك التي تعاني نسب فقر مرتفعة وضعفا شديدا في الخدمات والبنى التحتية إضافة إلى قمع شديد من الأنظمة الحاكمة يعود بالدرجة الأولى لأسباب اقتصادية أفضت لمستوى معيشة اقتصاد سيئ جدا مقرون بغياب شبه كامل للحرية والكرامة ووضوح فاضح ومستفز للفساد الناشئ عن التحالف بين السلطة ورأس المال ركز الثروات لدى فئات قليلة متنفذة في حين تعاني تلك البلدان معدلات بطالة مرتفعة وارتفاع معدلات من هم دون خط الفقر، وتوزيع أكثر من ظالم للثروة وبنى تحتية متهالكة أو منعدمة. الغضب العارم الذي أسس لاحتقان شديد ينتظر أي صاعق يفجر الأوضاع كحادثة ""محمد البوعزيزي"" في تونس أدى لانفجار الأوضاع في عدد من الدول العربية حيث انطلق الشباب في هذه الدول للقضاء على الديكتاتوريات المتسلطة للخروج من أوضاعها الاقتصادية التي ساوت بين الحياة والموت في ذهنية الشباب الذي حرك بعضه البعض الآخر من خلال أدوات التواصل الاجتماعي وغيرها من الأدوات ليصبح القوة الفاعلة على الساحات القادرة على حسم الأمور بشكل أكبر من أي قوة غيرها وإن بقي بعض القوى مؤثرا بشكل أو بآخر إلا أنها ودون أدنى شك تأخذ بالاعتبار مواقف واتجاهات القوى الشبابية بعين الاعتبار قبل أن تتخذ أي قرار أو خطوة لا كما هو الحال في السابق حيث الاستهتار بهذه القوى وكأنها معدومة تماماً. أنظمة سياسية سقطت وأخرى في الطريق للسقوط وثالثة بدأت تأخذ وبشكل جدي تغير موازين القوى بين النخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقوى الدولية من جهة وقوى الشباب في الشارع العربي من جهة أخرى حيث باتت قوى الشارع تفوق تلك القوى في بعض الدول العربية وتتزايد قوتها في دول أخرى بشكل ينبئ بإمكانية تفوقها في الدول العربية الأخرى، وبكل تأكيد في هذا التغير بدا يقض مضاجع الدول الغربية المتقدمة وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية ما جعلها تتحرك وبشكل سريع من خلال الفكر الاستراتيجي الذي تتميز به عن بقية دول العالم التي لم يصل بعضها لمرحلة التخطيط التقليدي لغاية الآن للتصالح مع قوى الشباب في الشارع العربي بمداخل عاطفية ترضيه على المدى القصير لتتمكن من السيطرة عليه على المديين المتوسط والطويل لتبقي على مصالحها في مأمن في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كما يطلق عليها الغرب. إذن نحن أمام تحرك سياسي غربي ذكي مخطط من قبل مراكز فكر متمرسة في دول لديها أدوات متعددة وقوية تستطيع من خلالها السيطرة على القوى الشبابية العربية المتحمسة والراغبة بدول مدنية تنتهج أنظمة اقتصادية رأسمالية تقوم على الجدارة في استثمار الموارد كافة بما في ذلك الموارد البشرية الطموحة والخلاقة في جو من الحريات والعدالة والمساواة والوضوح والشفافية للارتقاء بالمستوى الاقتصادي لدولهم وتحسين مستوى حياتهم ومعيشتهم وتحقيق كرامتهم بالمحصلة، وهو تحرك لا يستهان به فكما نعلم فإن الدول الغربية تملك من الأدوات ما يمكنها مما تريد تحقيقه وهنا خطر سياسي يجب أن يلتفت له الشباب العربي للوصول إلى مبتغاهم باقتصاديات قوية تحقق العيش الكريم لهم ولمواطنيهم. وإذا كان خطر هيمنة الغرب على ""قوى الشارع الشبابية"" هو التحدي السياسي الأول للربيع العربي للوصول إلى اقتصاديات قوية وفاعلة فالخطر الثقافي المتمثل بضعف أو انعدام قيم ومفاهيم ومبادئ الديمقراطية والاقتصاد الحر والإنتاجية والابتكار والإبداع هو التحدي الكبير الثاني الذي يتطلب جهوداً حثيثة وكبيرة لمعالجته للوصول لاقتصاديات قادرة على تحقيق طموح المواطن العربي بحياة كريمة ومستويات معيشة راقية بأدنى درجات من نسب البطالة والفقر.