مشاري الذايدي نقلا عن (الشرق الأوسط) اللندنية في مصر، نحن في بداية القصة ولسنا في نهايتها. خلع أو «تنحى» الرئيس حسني مبارك، وزج برجاله في السجون، وتم حل البرلمان، وتعديل الدستور، وتنصيب عصام شرف رئيسا للحكومة وأداؤه القسم في ميدان التحرير أمام جموع الغاضبين وأخذ الشرعية منهم وتعهد لهم بأن يكون خير ممثل لهم. لكن الغليان لم يهدأ، وها هي المظاهرات والاعتصامات تعود إلى ميدان التحرير من جديد ومعه مدينة السويس الثائرة، فيما وصفوه ب«جمعة القصاص والتطهير» هذه المرة بحجة القصاص لدم الشهداء من قوى الأمن، وأيضا «تطهير» الحكومة بالكامل من «فلول» النظام والعهد المباركي، وتسريع محاكمة رموز النظام، وعصام شرف يحاول رتق الثقوب في سفينة مصر، ولكن دلوه مهترئ والمياه تتدفق بغزارة عليه من كل مكان، لذلك لم يكن بيانه الذي قال فيه للشعب إنه قد وجه وزير الداخلية بإنهاء خدمة مجموعة من ضباط الشرطة على ذمة ملف التعامل الأمني مع المواطنين، كافيا، بل زاد الغضب الثوري منه، وأيضا جاء الرد سريعا من وزير الداخلية اللواء منصور العيسوي، الذي رفض الاستجابة لهذه الأوامر السريعة، وقال، حسب ما نشرت جريدة المصري اليوم، إنه لن يحاسب الضباط والأفراد إلا وفق القانون، وإنه لن يسمح بغير ذلك، وإذا ما أجبر على تقديم هؤلاء الضباط لهذا النوع من القرارات السريعة دون محاكمة عادية وعادلة، فسوف يقدم استقالته، ودافع عن رجال الشرطة المصرية، وطالب من يتهم الجهاز بالفساد أن يقدم أدلته أو يتحمل الملاحقة القانونية. أي أن وزير الداخلية رفض أن يقدم ضباطه كقرابين شعبية للمتظاهرين من أجل إنقاذ حكومة عصام شرف.. هكذا باختصار. المتظاهرون صعدوا، وانضم إليهم «الإخوان المسلمون» بعد تردد وحسابات معقدة، وقد سقطوا في مسابقة المزايدة الشعبية في الميدان، هذه المرة، ووجه لهم خصومهم ضربة «شعبية» ذكية، وهي الضربة التي جعلت محمد حبيب، نائب المرشد السابق، ينتقد تلكؤ الجماعة في «الانخراط» الفوري في كل الجمع الماضية ضد حكومة شرف والمجلس العسكري، خصوصا في ملفي أسر الشهداء واجتثاث «المباركية» من الحياة السياسية المصرية، حتى وإن حاول بعض رموز السياسة الجديدة تلطيف هذا المصطلح «اجتثاث» السيئ السمعة في العراق. وهذه المرة، أيضا، بادر عمرو موسى إلى الذهاب لميدان التحرير وإلقاء الخطب الحماسية، وتأييد مطالب المعارضين، بعد أن تلقى النقد القاسي بسبب تردده وحضوره الخجول في أيام الميدان الأولى أثناء المظاهرات ضد نظام حسني مبارك. هناك فعلا حالة من التشويش والغموض، وتضارب الأهداف واختلاطها في الساحة المصرية، ولا صوت يعلو على صوت الثورة، في الميدان طبعا، لذلك لم يمض شرف إلا فترة وجيزة بعد «بيعة الميدان» حتى أصبح هو في مرمى النار الثورية، ورفع له المعارضون، كما قال عبد الحليم قنديل «الكارت الأحمر» هذه المرة، وكان مما قيل في ميدان التحرير، في الهجوم على خطاب رئيس الوزراء عصام شرف، إنه جاء متأخرا عن موعده بعد أحداث مسرح البالون يوم 28 يونيو (حزيران)، مطالبين بإلغاء كلمة «سوف» من خطابات شرف أو رسائل المجلس العسكري، وأن يحل محلها كلمة «تم بالفعل». بعبارة أخرى تم توجيه عبارة «ارحل» التي قيلت لمبارك ثم لعمر سليمان، ثم لأحمد شفيق، وإلى عصام شرف الآن. هناك حالة ثورية في وضعية انعقاد دائم بمصر، لا ندري كيف يتم الخروج منها إلى حالة الاستقرار، الشارع لا يريد العودة إلى الحياة الطبيعية، وانتظار تحقيق المطالب عبر القنوات العادية، لأنه فيما يبدو هناك أزمة ثقة في رموز المرحلة الانتقالية وقدرتهم على تحقيق الأحلام والمطالب، وهناك توجس عميق من مصداقية - ولنقلها بصراحة - جنرالات المجلس العسكري، باعتباره - بشكل أو بآخر - غير مرتاح تماما للتحول الثوري المصري، ويريد مجاراة الشارع الثوري قدر المستطاع، وقدر المستطاع هنا تعني مستطاع العسكر والجيش بحيث لا يفقدون كنوز قوتهم في الدولة المصرية، ولا يمارسون دورهم العلني الفج في الحكم، بل كما كانوا في السابق «ملوك الظل». لكن تزايد المد الثوري وشراهة المطالب المتتالية لا تبقي هامشا للجنرالات، وترغمهم إرغاما على مواجهة الجمهور والشارع والقوى السياسية، مباشرة، ومن دون قفازات عصام شرف أو غيره من الوجوه. من مطالب رجال الميدان إقالة مجموعة من وزراء حكومة شرف بحجة أنهم من مدرسة عهد مبارك وبقايا النظام القديم، وهي طبعا أوصاف غامضة وخطيرة في نفس الوقت ممكن أن يدان بها أي عامل في المجال العام المصري الآن، في جو الشحن الحاد المشاهد. من ضمن هذه الأسماء، اسم وزير الخارجية المصري محمد العرابي، فقد طرح اسمه من ضمن المغضوب عليهم ثوريا، وكان لافتا الهجوم الصاعق الذي بادر به المرشح الرئاسي المحتمل، المحامي محمد سليم العوا، الوزير العرابي في لقاء عام جمع العوا ببعض المثقفين ورجال القانون في القاهرة قبل أيام، وكان مما أخذه العوا على العرابي، حسب ما نشر في جريدتي «الأهرام» و«الشروق»، هو أن العرابي قال للسعوديين كلاما في سياق زيارته للسعودية وتقوية علاقات مصر ما بعد الثورة إن السعودية هي الشقيقة الكبرى، فثارت ثائرة العوا، وغضب غضبا عرمرميا، وقال هذا كلام لا يجوز من وزير خارجية مصر، وهو يعني أنه لا يعرف قدر مصر وثقلها الحضاري والتاريخي والسياسي، وأن مصر هي الشقيقة الكبرى، وليس غيرها، وبعد هذه المرافعة الساخنة، طالب العوا بإقالة وزير الخارجية المصري الجديد، الذي عين منذ أسابيع، حتى يعرف قيمة مصر! عاد العوا سريعا وسحب مطالبته بإقالة الوزير، لأنه قد فهم كلامه على غير وجهه، كما شرح. وكان الوزير المغضوب عليه قد صرح فقال إن كل الدول العربية «الخليجية» التي زارها تكن التقدير الكبير لمصر وتشعر بريادتها العربية، وإن وزير الخارجية السعودي قال له إن العرب من دون مصر كالسفينة من دون ربان. من الواضح أن المشهد هو مشهد فاقع لمزايدات انتخابية وسياسية، ومن هنا نفهم هجوم الكاتب والباحث الإسلامي محمد سليم العوا، الذي لم يقتصر على وزير الخارجية المصري، بل طال شواظه بعض الصحف المصرية التي لا يرضى عنها بسبب مواقفها السياسية والإعلامية. الأمر ليس مختصا بالعوا، فالسوق كلها حافلة بهذا النوع من المواقف والتصريحات الاتهامية الثورية الحدية. الماء يغلي ويغلي هناك، السلفيون يصعدون (وقد رأينا كيف قاد الشيخ حافظ سلامة، وغيره، حملة شعواء ضد رجل الأعمال نجيب ساويرس بسبب رسمة ميكي ماوس!) ومثلهم «الإخوان»، و«شباب ال(فيس بوك)»، والقوى الناصرية واليسارية التي تشعر أن «الإخوان» فازوا بالمولد، وهم «خرجوا منه بلا حمص» كما يقال، وكذلك القوى والشخصيات «الليبرالية» من جماعة البرادعي وغيره، الكل يحاول عدم ترك «الإخوان» يستفردون بالمشهد مع المجلس العسكري. ما جرى، بصرف النظر عن عدالة أو واقعية المطالب المرفوعة، هو تذكير، لمن نسي من العسكر وغيرهم، أن هناك من يجب أخذه بالاعتبار في رسم المشهد السياسي العام لدولة مصر ما بعد مبارك. حينما تدخل في المزاج الثوري الذي يريد تحقيق الكثير الكثير في القليل القليل من الوقت والإمكانات، تصبح الحالة صعبة وحرجة، والتاريخ في لحظة انحباس كبرى.