حسن بن فهد الهويمل - الجزيرة السعودية البلد الطيِّب تخرج مشاريعه بسمات ثلاث: - المبادرة، والانسيابية، والمواءمة. فيكون الشكل الجميل والطعم اللذيذ والرائحة الزكية، ويتحقق عنصرا الزكاء والنماء. وبلاد الحرمين حباها الله بنعم ثلاث: - نعمة الإسلام، بحيث تمثلته المملكة ممارسة وتحكيماً. - نعمة المقدّسات، بحيث هفت إليها أفئدة الطائفين والعاكفين والُّركّع السّجود. - نعمة الخيرات المتدفّقة من باطن الأرض، بحيث خطب ودّها القاصي والداني وأصبحت ذات تأثير قوي في مصائر الطاقة والاقتصاد. وهذه النعم الثلاث وفّرت لها أعماقاً سياسية واقتصادية ودينية مكّنها الله من استغلالها على الوجه الأكمل، فكانت بذلك ملء السمع والبصر؛ ومن ثم أصبحت بلداً طيباً بكل ما تعنيه هذه الكلمة، فيما ضاعفت المسؤولية على كل من ولي شيئاً من أمورها المتعلقة بالداخل أو بالخارج: «وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسَامُ» و: «على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم» في هذه الأجواء المتحفّزة لكل خير عِشْت إحدى المناسبات الخيّرة، فأحسست بفيوض المشاعر الجميلة. لقد نهض لفيف من الخيّرين من أبناء مدينة «بريدة» يتقدمهم زميل الدراسة والعمل الأستاذ عبد الكريم الجاسر لإنشاء جمعية للأيتام سمّوها «أبناء»، ولما استوت على سوقها دشَّنوها بحفل بهيج أبرزوا من خلاله بوادر الإنجاز، رعاه سمو أمير المنطقة وباركه الموسرون وشدَّ من أزره الكافة، فكان الحفل بحق فاتحة خير، وكشفاً للمنجزات الخيّرة في هذا السبيل القاصد {وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} وبلادنا الآمنة في زمن الخوف، المطمئنة في زمن الاضطرابات، الغنية في زمن الفقر المتلاحمة في زمن التفكك بأمسّ الحاجة إلى معرفة حق الله وحق عباده، ورعاية هذه المثمّنات حق رعايتها: «ومن رعى غنماً في أرض مَسْبعَةٍ ونام عنها تولَّى رعيها الأَسد» ومعرفة الحقوق والمبادرة في أدائها من مؤشرات التوفيق، فالنعم كشوارد الإبل ما لم يتعهّدها الرعاة الروّاد الذين لا يكذبون أهلهم تخطّفها دعاة السوء من كل جانب، ولا سيما أن بلدنا مستهدفة بدوافع مادية وسياسية وطائفية، ومن ألقى السمع وهو شهيد عرف حجم الفتن المحدقة، وفداحة المهمات لتفاديها وصدّ كيد الكائدين. وسعيُ الموسرين للإنفاق في وجوه الخير واستباق العلماء والمفكرين لمنابر الإعلام وبذل ما يقدرون عليه من بوادر الخير، وصنائع المعروف تقي مصارع السوء، والصدقات تصارع الفضاء بين السماء والأرض، وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) سورة هود، وانظر كم هو الفرق بن «صالحين» و»مصلحين» فالصلاح في الذات غير كاف لدرء العذاب، بل لا بد من الإصلاح والذي يمتد إلى الآخرين من فقراء ومساكين وأيتام وجهلة ومستضعفين، ولقد عثرت على تفسير لهذه الآية مغمور وسط تفسيرات أحسبها مفضولة، وكم كان بودي إشاعة هذه الرؤية التي ساقها «الطبري» بأسلوب تمريضي، إذ قال: (وقد قيل: معنى ذلك لم يكن ليهلكهم بشركهم بالله وذلك قوله: «بظلم» يعني: بشرك، وأهلها مصلحون فيما بينهم لا يتظالمون ولكنهم يتعاطون الحق بينهم وإن كانوا مشركين إنما يهلكهم إذ تظالموا). ومن ثم فإنّ التظالم بين الحاكمين والمحكومين والأغنياء والفقراء مدعاة لأخذ الله: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ هود102. ولقد نُسب إلى «ابن تيمية» ما يؤيد هذه الرؤية فالإصلاح أساس الصلاح. وبلاد الحرمين الشريفين بما أفاء الله عليها من حكم رشيد ورخاء عميم يستبق فيها الحاكم والمحكوم سائر وجوه الخير، وهذا مدعاة للطف الله وتثبيته ومزيد إنعامه، ومهمّات جمعية (أبناء) من الإصلاح المنشود. فالموسرون بهذه المبادرات وبمعرفتهم لحق السائل والمحروم واليتيم والظاعن والمقيم، يحاولون درء الفساد الذي كرهه الله ونهى عنه، إنّ هذه الظواهر الإنسانية تقدر الله حق قدره، وفي تلك المناسبة الثرية بكل جميل تذكرت والذكرى مؤرقة أزمنة سلفت عشتها متجرّعاً مرارة اليتم وإن لم أكن يتيماً، وخبرت اليتم معلماً للأيتام ومديراً للضمان الاجتماعي ووكيلا للأيتام وعائلاً لطائفة منهم، إذ ما زلت مغموساً مع هذه الفئة إلى الأذقان، أخرج من حقل لأدخل في آخر، ففي السادسة من عمري فرّق الطلاق بين أبوي لتكون أمي مع زوج لا يحمل حنان الأب ويكون أبي مع زوجة لا تحمل حنان الأم، ولقد عشت بين بيتين غريب الوجه واليد واللسان، وتلك المعاناة التي لا يعرف مرارتها إلا من تجرّع غصصها حملتني على تحذير كل من شكا إلي سوء علاقته مع زوجته بألاّ يفكر في الطلاق وأن يعدَّه انتحاراً بطيئاً لأنه لا يقضي بالموت الناجز ولكنه يقضي على الحياة السوية. وكم من أبناء وبنات يعيشون حياة اليتم بين آبائهم وأمهاتهم الذين فرّق الشيطان بينهم بالطلاق، ولربما يحتاج هذا الصنف من الأبناء المنكوبين أكثر مما يحتاجه الأيتام الحقيقيون لأن هذا الصنف يشبهون من يحسبهم الناس أغنياء من التعفف. وبعد حصولي على الشهادة الابتدائية قبل نصف قرن ونيف تعيّنت مدرساً ابتدائياً بدار الأيتام ببريدة، فعرفت بالمخالطة دخائل الأيتام وما يعانيه اليتيم من وحشة وفراغ روحي، على الرغم مما يتوفر له في المدرسة من رعاية ومخالطة ومأكل ومشرب ومأوى قد لا يتوفر مثله للمدرسين الذين يعلمونهم، فاليُتم جرح غائر في شغاف القلب لا تضمده اللفائف ولا تلينه المراهم، وكسرٌ للخواطر لا تجبره الأربطة ولا تشدّه الجبائر، غير أن اليتيم حين يرى الاحتفاء والاحتفال ويجد أن المجتمع سبّاق إلى المواساة وتخفيف الآلام، تخف آلامه وتقل وحشته وتتفتح أبواب الأمل أمام ناظريه، ومثل هذه الجمعيات تملأ الفراغ النفسي الذي يعانيه الأيتام. وكل مصاب لا بد له من ذي مروءة (يواسيه أو يأسوه أو يتوجع) وسائر الجمعيات الخيرية إن هي في النهاية إلا تجميع للجهود وتنظيم لأدائها وترشيد لإنفاقها، ولقد يكون بعض الموسرين مستهلك الجهد والوقت وحاجته إلى مؤسسة مساندة تنوب عنه في ممارسة الإحسان، وهذه المؤسسات المدنية التي تشرف وتنفق وتعظ وتملأ الفراغات، بحاجة ماسة إلى الدعم المادي والمعنوي، لقد وجدت في دور الأيتام من الرعاية للأيتام ما لم يكن متوقعاً في زمن مبكر، واختلاطي بهم مدرساً ومراقباً ومشرفاً وعضواً في كثير من اللجان، أثبت لي أن هذه الشريحة بكل معاناتها بحاجة إلى مثل هذه الرعاية التي ترفع المعنوية وتثبت الأفئدة وتربط على القلوب الفارغة، ومهما بذل من العطاء والرعاية فإن فَقْد الأبوين أو أحدهما لا يمكن أن يعوّض، ولكن التكافل الاجتماعي مطلب إسلامي وواجب إنساني والمجتمع المدني بأمسّ الحاجة إلى المؤسسات الحكومية والجمعيات الأهلية، وهذا من سمات المجتمع المصلح، فإذا اجتمع الصلاح في الذات والإصلاح في المجتمع تحقق الإنسان الكامل:- و»ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا وأقبح الكفر والإفلاس في الرجل» وبعد مفارقتي للتدريس في مدارس الأيتام وإدارتي للدار التي تحوّلت فيما بعد إلى مسميات مناسبة قصد منها طرد شبح اليتم بحيث سميت ب»دور التربية الاجتماعية» ولم تكن الدراسة فيها داخلية كما كانت من قبل، التحقت بمصلحة الضمان الاجتماعي موظفاً وباحثاً اجتماعياً للأسر المستحقة ثم مديراً لمكتب الضمان الاجتماعي ببريدة لمدة خمس سنوات، ومن خلال عملي الميداني تعرفت على معاناة الفقراء والأيتام وأحسست أنّ الدولة والمجتمع سبّاقون للتصدي لتلك الآفات المجتمعية ولا سيما ما لقيه قطاع الضمان الاجتماعي من دعم سخي وفَّر عيش الكفاف للفقراء والمساكين والأيتام. والدولة الغنية والباذلة لا تستغني عن العمل التطوعي وبث روح التراحم بين الناس، والمجتمع السعودي من المجتمعات الغنية وواجب الموسرين أن يسهموا في مكافحة أي ظاهرة غير سوية كظاهرة اليتم، وغيرها من الظواهر السلوكية، كالفساد والرشوة والتدخين وترويج المخدرات والطلاق والعنف الأسري والاستهتار بضوابط السلامة كافة، ولن تتحقق التوعية والإرشاد إلا بإشاعة الأعمال الخيرية من خلال المؤسسات والجمعيات ووسائل الإعلام. ولما مات أبي في عنفوان كهولته خلَّف أيتاماً كنت الرقيب عليهم بتوصية منه رحمه الله، وكان قيامي عليهم بما أستطيع من فواتح الخير، فلقد كنت صفر اليدين إلا من ذلك الراتب الزهيد الذي لا يسد الرمق، وحينما أسديت لهم بعض الجهد تدفقت عليّ الخيرات والبركات من كل جانب، وشعرت بلذة البركة التي حرم منها خلق كثير والمحروم من حرم بركات السماوات والأرض، والماديون ينكرون سر البركة، وبالذات ما تضمنه حديث زيادة الصدقة للمال كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما نقص مال من صدقة بل تزده بل تزده»، أو كما قال، فالماديون يعتمدون لغة الأرقام وهي لغة دقيقة ولكن لا مكان لها مع سر البركة الذي بشّر به من لا ينطق عن الهوى. واليوم تشرق أرجاء بيتي بثلاثة أيتام هم أبناء الشهيد المقدم المظلي إبراهيم الطاسان زوج ابنتي أم فيصل، لقد دخلوا بيتي تحدوهم البركة وترود لهم الخيرات وتحوّل بيتي بوجودهم إلى جنان وارفة الظلال فنفس اليتيم كالرياح اللواقح حين تهب في أرجاء البيت تورق أرجاؤه وتتدفق خيراته وتجلله السكينة. هكذا أراد الله لي عيشاً متواصلاً مع الأيتام وتمتعاً بالبركة التي يمنحها الله لكل من شرفه بخدمة اليتيم. لكل هذا أحسست أنّ الصفوة من رجال الأعمال الذين يتدافعون لدعم مثل هذه الجمعية إنما يقدمون لأنفسهم ويدفعون عن أنفسهم، ولم استغرب التبرعات السخية والأوقاف العملاقة التي تدفقت بالملايين قبل الحفل وفي أثنائه، وما يقدمونه من خير يجدونه عند الله، فالله تعهد بتربية الصدقة كما يربي أحدنا فلوَّه. إنني أبارك لأخي عبد الكريم الجاسر ولزملائه وللجنود المجهولين الذين لا تدري شمائلهم ما تنفق أيمانهم، أبارك لكل محسن هذه المبادرات الإنسانية وأرجو أن يجدوا الدعم والمؤازرة مادياً ومعنوياً فبالشكر تدوم النعم، وكيف لا يتسابق المقتدرون وكافل اليتيم يقف إلى جنب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلما يتجاور الأصبعان السبابة والوسطى فلنستبق الخيرات قبل فوات الأوان.