د. سعد بن عبد القادر القويعي - الجزيرة السعودية (فقه الواقع) مصطلح مركّب من لفظين، أحدهما: فقه، والآخر: واقع. والمراد منه عند كثير من أهل العلم، هو: فهم النوازل الواقعية، وتصورها - بمكوناتها وظروفها- ؛ من أجل معرفة حكمها الشرعي المناسب. وحتى يكون العالم قادراً على استقراء الشريعة، ونصوصها، والأحكام التي تدل عليها، لا بد أن يجمع بين الأصالة الشرعية، والاستجابة الواقعية، وذلك من خلال النظر إلى مقاصد الأمور، وقواعدها العامة، وأصول الاستنباط منها؛ لوفاء هذا النوع من الفقه بالحاجات مهما كثرت، والمستجدات مهما تنوعت. وباختصار، يمكن القول: إن ثمرة فقه الواقع، هو: نتاج تفاعل النص الشرعي مع الواقع. وتأسيساً على ما سبق، فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقهيا بواقعه، عالما بأحوال الناس، وطبائعهم. ومن ذلك: أنه كان يخاطب الناس على قدر عقولهم، واختلاف أفهامهم. فقد روى البخاري في صحيحه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة: « لولا حدثان قومك بكفر، لهدمت الكعبة، ولبنيتها على قواعد إبراهيم، ولجعلت لها بابين «. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - خشي أن يفهم كفار قريش، الذين أسلموا حديثا من نقضه الكعبة، ومن بنائه إياها على بناء إبراهيم، ومن جعله لها بابين: بابا يدخل منه الناس، وبابا يخرجون منه، خشي أن يفهم منه الناس فهما غير صائب، وأن يفهموا أنه يريد الفخر، أو أنه يريد تسفيه دينهم - دين إبراهيم -، أو نحو ذلك، فترك هذا الفعل. ولهذا، بوب البخاري - رحمه الله - بابا عظيما استدل عليه بهذا الحديث، هو: « باب: من ترك بعض الأخبار مخافة أن يقصر الناس عن فهمه فيقعوا في أشد منه». وعند الحديث عن التطبيق العملي، لهذا الفقه على أرض الواقع، فقد يكون له أثر على الأحكام الشرعية، وقد لا يكون. - ولذا - دعا ابن القيم - رحمه الله - المفتي إلى نوعين من الفهم، فقال: « ولا يتمكن المفتي، ولا الحاكم من الفتوى، والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم، أحدهما: فهم الواقع، والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات، حتى يحيط به علماً. والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه، أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر «. ثم حكى عن - شيخ الإسلام - ابن تيمية، قال: « سمعت - شيخ الإسلام - ابن تيمية - رحمه الله - يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه ذلك، وقلت له: إنما حرم الله الخمر؛ لأنها تصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، وهؤلاء تصدهم الخمر عن قتل النفوس، وسبي الذرية، وأخذ الأموال، فدعهم «. ففقه الواقع قابل للتطبيق، وعندما يطبق على أرض الواقع، سيكون - بلا شك - سبيلا للارتقاء به. بل ذهب - الشيخ - عبد الله بن بيه، إلى أبعد من ذلك، وهو طرح مصطلح « فقه التوقع «، وليس « فقه الواقع «. إذ يراد من هذا الفقه: قراءة المستقبل، ومعرفة المآلات التي تفضي إليها الأمور. ولا يكون المفتي كذلك، إلا إذا كان ثقة في دينه. عالما بمدارك الأحكام، وباللغة العربية. عارفا بمقاصد الشريعة، وباستنباط معاني الأصول، وبمراتب الأدلة. إضافة إلى معرفته بالواقع، والظروف التي تحيط به. فالحكم على الشيء فرع عن تصوره، كما عبر عنه الأصوليون. ويكون ذلك من خلال: جمع المعلومة المتعلقة بالنازلة، والاستنارة بآراء أهل الاختصاص، ومن ثم إسقاط الحكم الشرعي على النازلة. مع مراعاة ضرورة الموازنة بين المصالح والمفاسد الشرعية المترتبة على الفتوى، حتى يتمكن المفتي من تطبيق القاعدة على الأمور المستجدة، - لاسيما - وأنها قائمة على أصول الشرع، وقواعده، ومقاصده، وموافقتها القواعد الشرعية الكبرى، ومنها: أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح عند التعارض.