د. إبراهيم بن عبد الرحمن التركي - الجزيرة السعودية * يروق لنا أن نقرأ شبابًا يحاربون «الطائفية» بوعيٍ لا يمتزجُ فيه محاكمة الحق والأحقية بالمساكنة والمواطنة؛ فالخلطُ هنا متاهةٌ بلا نهاية، أو هي نفقٌ دون أفق، وجميعنا موقوفون يومًا أمام الله ومساءلون، وسنعطى كتبَنا بالشمال أو اليمين، وحينها - فقط - يحسم من ضل ومن اهتدى. * * الكلماتُ الهادئة تحاكمُ اللغة «الشارعية»؛ فالعينُ بالعين، وكما نجزع من وصفنا بالنواصب فهم لا يقبلون وصفهم بالروافض، ومثلما يرفضون تسميتهم «أهل المتعة» فنحن لا نرتضي «أرباب المسيار والمسفار» وما جرى مجراهما، وهذه لغةٌ لا تنتصر أو تستسلم، بل تقرأُ الواقعَ وتتعايشُ معه، ولا يُهِمها البحث في الجذور والفروع والتفاصيل من منحنيات التاريخ أو مفارق التوحيد؛ فالوطنُ فضاءٌ لبنيه وبانيه. * * تبقى ثللُ من يسايرون النظام «الفارسي» أو يسيرون معه؛ فعليهم وزرُ الشحن الطائفي الذي يذكي المواجع ويجدد الفواجع، لكن المأساة لا تقتصر على مخالفي المذهب وحدهم؛ فالقبليةُ - من زاويةٍ مقابلة - فخٌ كبير، وكثيرًا ما تثور أو تثار محرضاتُها بين الشباب بخاصة، وحكاياتها «المؤلمة» متداولةٌ - بصورةٍ يوميةٍ - في المواقع الشبكية، ومثلها الإقليميةُ المترسبةُ في أذهان الكبار، وهو ما يعني أن منطق التشظية أعمى لا يحدُّه مدى. * * كل هذا لا يتنافى مع حب المرء مذهبه وقبيلته ومنطقته ومدينته وحارته وعشيرته الأدنين، ورغم أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أُجبر على مغادرة «مكة» فقد ظلت أحبَّ بلاد الله إلى الله وإليه - كما شرح شيخ الإسلام «ابنُ تيمية» في الفتاوى (18/ 280) مكذبًا حديثًا مشابهًا: (اللهم إنك أخرجتني من أحب البقاع إلي فأسكنِّي في أحب البقاع إليك). * * إشكال الحب هنا يتحول إلى معضلة تنمويةٍ حين يمسُّ تفضيل الأهل والأقارب والجماعة في حقوقٍ للآخرين مقياسها الجدارة والتأهيل والإنجاز، وهو داءٌ متأصلٌ في الإدارة حتى لتكاد تعرف توزيع موظفي دائرة أو وزارة من أسماء مسؤوليها. * * تبقى المعايير العامة هلاميةً ينفذُ منها شيءٌ من الظلم والتجاوز والالتفاف؛ ما يجعل هيئة مكافحة الفساد مطالبةً بدور حيوي في رسم معالم الطريق كي يكون الإنسان المناسب في موقعه المناسب، دون أن تلتفت لأصوات «المناطقيين» الذين يناصرون فئوية المناصب والوظائف ليسود التحيز أمام التميز. * * والمفارقة التي تحتاج إلى دراسةٍ متأنية هي دفع الإقليمية بما يماثلها عبر ما يبدو دراساتٍ منهجيةً؛ بعضها رسائلُ علميةٌ؛ فكأنها تنتصر لأقلمة في مواجهة أقلمة، ومنطقة مقابل منطقة، وقد نصل منها - لو تجذرت - إلى «محاصصةٍ» وظيفيةٍ تتجاهل مبدأ «القوي الأمين» في التوظيف بمختلف مستوياته العليا والمتوسطة والتنفيذية. * * وفي مواقع التواصل الاجتماعي، وهي للتحادث بين الشباب غير الملتزم بأدلجة معينة في الأعم، بدت ظاهرة إلحاق المذهب بالدين بحيث صاروا يكتبون في بياناتهم إن كانوا سنةً أو شيعة، وهو ما لم نكن نألفه قبلا، مثلما لم نكن نعرف التقسيم القبلي بالحدة الموجودة اليوم، وإذا تواصلت هذه الظاهرة فلن ينأى يومٌ يضاف فيه الانتماء العرقيُّ والإقليمي والمذهبي لأوراقنا الخاصة والعامة، وويل لنا لو وصلنا هذه المرحلة. * * الوحدة وعيٌ وإيمان.