إذا وجَّهنا هذا السؤال إلى عيِّنة من المثقفين، فسوف تختلف إجاباتهم عن إجابات غير المثقفين، والسبب في ذلك أن غير المثقفين وهم الكثرة الكاثرة في الشعوب هي الأقرب إلى تقبُّل الرسالة الإعلاميَّة الرسميَّة أو الشفهيَّة التي يسرِّبُها الحاكم العربي عبر أجهزته داخل الدولة، بحيث تبدو صورتُه أمام هذه الأغلبيَّة مختلفة تمامًا عن تلك الصورة عند المثقفين، نقطة البداية أن الحاكم العربي عادة لا يستمدُّ شرعيتَه من الشعب عن طريق صناديق الانتخاب وإنما تسنده تحالفاته الداخليَّة وولاءاته الخارجيَّة، وقد سادت نظرية الحكم الإلهي في العالم العربي خاصَّة في النظم الجمهوريَّة التي تمسك دستورها نظريًّا على الأقلّ بالطابع الدستوري، رغم أن الدستور نفسه أصبح أداة من أدوات السلطة في يد الحاكم العربي، وليس قيدًا عليه لصالح حريات الشعوب وحقوقها، صار باختصار عقدًا من طرفٍ واحد يحرِّره الحاكم بعد أن قضى على إرادة الشعب بالتجهيل والإرهاب، فإذا تململ الشعب إزاء هذا الاختناق سارع الحاكم بتدشين تشريع الإرهاب، وكأنه حريص حقًّا على أن يكون بطشه بالقانون كما كان الرئيس السادات يتباهى بذلك علنًا ما دام قد ضمن برلمانًا مزوَّرًا يأتمر بأمرِه وقضاءً لا يرد له قرار بل يسارع إلى مباركته كما يسارع غيره خاصة رجال الدين الذين احترفوا نفاق الحاكم باسم الدين مما تطلق عليهم الأدبيات السياسيَّة العربيَّة "فقهاء السلطان" وهي فئة أدمنَت عطايا السلطان وذهبه إما توقًا لبطشه وإيثارًا للمنصب وخيراته، وإما طمعًا في مزايا المنصب وطموحًا إلى الترقي في مدارجِه. يعرف الحاكم العربي منذ اللحظة الأولى أنه جاء ليبقى وأنه الحاكم المطلق في البلاد والعباد وأن الخارج يطلق يده ويكفُّ عن نقده وفضحه مقابل سكوت الحاكم على نهب الخارج لبلاده وهيمنته على مقدَّراتها وقراراتها، وهكذا يصبح الحاكم العربي عبد الخارج مقابل أن يصبح سيدًا مطاعًا في قومِه، ويمدّه الخارج بكل أدوات القمع فيكره المستفيدون من هذا المناخ الفاسد سلطان الحاشية متجاوزًا أحيانًا رغبات الحاكم، فيُشيعون بين الناس أن الحاكم لا ينام قلقًا على شعبه، رغم أن عدم نومه راجع إلى انهماكه في النهب وترتيب أوضاع الفساد، كما يشيع أنصاره بعض صور صلاحه، وكان مبارك متميزًا في الاستخفاف بشعبه، مما جاء في خطبِه حتى اللحظة الأخيرة من إظهار للجديَّة في احترام الدستور والقانون والحفاظ على سيادة البلاد، رغم أنه فرَّط في كل شيء، فيصبح الكذب عادة في خطاب الحاكم، ولا ينسى الحاكم العربي أن يمعن في الفساد والقهر والاستعانة بأجهزة متخصِّصة لذلك، حتى إذا لمح الشعب ونخبه شيئًا من ذلك تمَّ التصدي لهم، هكذا أصرَّ الحاكم على عزْل المثقفين عن الناس عن طريق مهاجمتهم ومحاربتهم، وعزلهم عن مناطق التأثير السياسي والإعلامي والاستحواذ على العامَّة بخطاب مهلهل لا يصمد أمام ذكائهم الفطري، فينكشف الحاكم أمام العامَّة رغم أنهم يرددون مقولاته، بلغ الفجور حدًّا لا يُصدق عندما أشاع مبارك أن الوضع الراهن المضمون خيرٌ من غدٍ لا تضمنُه، وهذا القول يستند إلى اعتقاد عند المصريين بأن الوضع الراهن دائمًا خير مما تأتي به الأقدار أو الغرباء، وفي ذلك أمثال شعبيَّة لا تُحصى، بل إنه أشاع بأن من سرق ونهب وشبع خير من الذي يبدأ بصفحة جديدة من النهب، وهذا يفترض أن المنصب أداة النهب والفساد، فمن أعلاه فاز به دون غيره غنيمة مستحقَّة بسبب ذكائه وقدراته على التزوير أو غيره. وكلَّما تقادم الزمن استخف الحاكم بالشعب وعزلته بطانته عن الواقع، ومساعدته على التوحُّد مع المنصب حتى تتمكَّن من مقدرات البلاد، فلا يصعد إلى السلطة إلا من تريده، وتقطع الطريق على الحاكم الذي يحاول اختراق الحاشية وصولًا إلى شعبه. وعندما تقوم الثورة ضد الحاكم، يرى شعبًا جديدًا، فيصاب بالدهشة من عدم وفاء هذا الشعب له، رغم أنه في تقديره يقدم له تضحية كبرى بقبول الاستمرار في المنصب، فيتّهم الشعب بأنه داخله تبرير أجنبي، فيواجه الثورة بالقوَّة، فعل ذلك مبارك، ويفعل ذلك القذافي الذي نذرَ نفسه لتحرير ليبيا من الشعب حتى لو كلَّف ذلك احتلالها وخرابها، بعد أن سيطرت عليه روح الانتقام والفرار من الهزيمة وسوء المصير، أما اليمن فقد دخل هو الآخر في منعطفٍ خطير لأن القذافي وعبد الله صالح يحاربان معركة البقاء أو الفناء بعد أن تجاوزا مراحل التسوية السلميَّة. تمسّك الحاكم بالسلطة مهما كان الثمن يشاركه فيه المستفيدون وهم الأكثر تشددًا وتمسكًا بالبقاء، فيتحوَّل المجتمع إما إلى حربٍ أهليَّة أو أن يتمَّ احتلاله من الخارج، والحلُّ نظام ديمقراطي ومُدَد محددة، ومحاسبة صارمة ووعي مجتمعي لهذا الحلِّ، ولكن الخطر لا يزالُ محدقًا بكل من ليبيا واليمن.