وَجهت الأسبوع الماضي دعوة لمبتعث سعودي لحضور مؤتمر عن تقنية الويب والشبكات الاجتماعية بكاردف في بريطانيا. فرد على دعوتي قائلا: "سأحضر، لكن بشرط أن أحصل على شهادة". قبل أن أستمع إلى شرطه اعتقدت لوهلة أنه سيسألني عن أسماء المحاضرين، وسيرهم الذاتية، وبرنامج المؤتمر. لكنه لم يكن يعبأ بكل ذلك. لا يعبأ سوى بالشهادة، والتي يفضلها مختومة. هناك الكثير منا تعنيهم شهادة الحضور أكثر من الاستفادة والاستزادة من فعاليات المؤتمر أو المنتدى. شغلهم الشاغل هو تطريز سيرهم الذاتية بشهادات لا تغني ولا تسمن من جوع. الملتقيات والمؤتمرات فرصة عظيمة للتواصل مع من نهتم بهم أو حتى مع من نختلف معهم. فرصة لتبادل المعلومات والأفكار والنقاش. المحاضرات والعروض المصاحبة للمؤتمرات مفاتيح للبحث والاستكشاف وسبر أغوار الأسئلة. شخصيا، لم أندم في حياتي على حضور أي مؤتمر في أي مجال. قطعا، تتفاوت نسبة الفائدة. لكن هناك فائدة ما. سواء كانت الفائدة مباشرة من محتوى الأوراق المطروحة أو غير مباشرة عبر اللقاءات الجانبية. قبل أيام قليلة حضرت محاضرة في مانشستر عن المسرح والتصوير التلفزيوني لباحثة بولندية تقيم في سوانزي. لم يرق لي عرضها أبدا. كان رتيبا ومملا. لكن أسرني لقاء مبكر جمعها أمامنا بباحث آخر جاء من جلاسكو. تقدم لها الباحث قبل المحاضرة مصافحا. ثم قال بصوت عال والسعادة تغمر وجهه وأنحاءه: "لا أصدق أنني أمامك. ظللت سنوات أقرأ مقالاتك وأوراقك العلمية بإعجاب". لم يكد ينهي حديثه حتى أجهشت الباحثة بالبكاء. قالت والدموع تملأ عينيها: "هذا تكريم غال جدا. أنا سعيدة بهذا الإطراء. كنت أظن أن لا أحدا يقرأ لي قبل هذه المحاضرة". تعلمت درسا عظيما من تلك المحاضرة. أن لا أنصرف عن أي لقاء قبل أن أودع امتنانا في أذن المحاضر. هذا الثناء سيترك أثرا عميقا في نفسه وروحه. سيحفزه وسيلهمه. سينعكس إيجابا على أدائه مستقبلا. تلك الدموع التي هطلت أمامي كانت أهم من ألف شهادة أحصل عليها. بالغنا في الاحتفاء بالشهادات، ما صغر منها وما كبر، حتى أصبحت غاية للجميع. ونسينا أن هناك ما هو أهم وأعظم منها. الشهادة مهمة لكن لا قيمة لها دون معرفة ووعي. الشهادة لا تجلب المعرفة. ربما يحصل عليها أي منا دون عناء. يمكن تزويرها أو اختلاسها. اسألوا لجنة معادلة الشهادات الجامعية عن معاناتها الأزلية في ملاحقة المزورين. روى الدكتور محمد بن أحمد الرشيد، عضو اللجنة الأسبق، في كتابه: مسيرتي مع الحياة، تفاصيل رحلته الماراثونية لإحدى الجامعات الأمريكية، التي زعم أحد المواطنين حصوله على شهادة دكتوراه منها. يشير الرشيد في كتابه إلى أنه وصل بعد جهد جهيد برفقته الدكتورعبدالوهاب أبو سليمان، والأستاذ عمر البيز لمقر الجامعة الوهمية. وجد مبنى خشبيا صغيرا بجوار محطة وقود عليه لوحه باسم الجامعة. وبعد أن دخلوا المبنى استقبلتهم موظفة وصعدت بهم إلى غرفة صغيرة استقبلهم فيها رجل في منتصف العقد الرابع. رحب بهم أجمل ترحيب. ثم سألهم عن سبب الزيارة. فأجابوا بأنهم يسعون للحصول على درجات علمية في الماجستير والدكتوراه. فقال الأربعيني: "بكل سرور. نحن نعطيكم شهادة في أي حقل من حقول المعرفة". وسأل الموظف الرشيد عن تخصصه فرد عليه: "أنا صاحب عقار". فقال اكتب عن تجربتك الشخصية وسنعطيك دكتوراه في إدارة الأعمال بقيمة لا تتجاوز 1500 دولار أمريكي. رواية الدكتور الرشيد رغم أنني قرأتها قبل عامين إلا أنها مازالت تسكن ذاكرتي. تستيقظ كلما شاهدت إعلانا بالصحف عن حصول مسؤول تنفيذي، على رأس العمل، على شهادة من جامعة خارج المملكة. تستيقظ كلما ارتطمت بدكتور يتعثر أثناء بنائه جملة في مجلس أو ملتقى. أفرطنا في تقدير أصحاب الشهادات فصارت وبالا علينا. كل شيء ينتقل في مجتمعنا بالعدوى. من الغلو في الإكسسوارات حتى اقتناء الشهادات. فلمَ لا نفرط في تقدير المعرفة؟ فالمعرفة هي التي تشيد تنمية ومستقبلا. يحزنني فعلا أن نصبح وطنا للشهادات وليس وطنا للكفاءات. يؤسفني أن نصبح مجتمعا يسأل أفراده بعضهم بعضا قبل حضور أي مؤتمر: "يعطون شهادات"؟