تصور إنساناً رأى حلماً مزعجاً: واجهة بيته وأفضل جزء منه قد تمت السيطرة عليه ظلماً وعدواناً من شرذمة من المغتصبين، ثم جاوره أولئك اللصوص؟ بأي حال سيستيقظ؟ بل كيف لو رأى كابوسا في اليقظة فيه أن ثلث بلده العزيز على نفسه قد (كشطه) ألد أعداء دينه وعقيدته، وأصبح كالخنجر في خاصرته؟ دعونا من هذه التخيلات المزعجة، ولنعيش الواقع، فقد تحقق(في بلدنا) أرض السودان العزيزة على أنفسنا أعظم من تلك الكوابيس والتخيلات، فاقتطعت منه مساحة تربو على ثلث مساحة المملكة العربية السعودية، وهي كذلك غنية بالنفط والموارد، وفي موقع استراتيجي بكل المقاييس السياسية والاقتصادية والجغرافية، لتقام عليه دولة وثنية نصرانية علمانية، قد ثبت قيام علاقات ودية لساستها مع دولة اليهود كما يقول المراقبون منذ عهد الحركة والتمرد، بل أكد توثيق وتعميق هذه العلاقة بعض كبار المسؤولين فيها إذا تم الانفصال. وقد كان انفصال جنوب السودان حلماً في الماضي القريب، من أجله حملت السلاح شرذمة من الأقلية الصليبية الجنوبية مستقوية بالغرب النصراني الذي استعملها، ولم يزل يدعمها حتى تحقق الحلم، لكنه لم يتحقق عن طريق البندقية! مع استماتة المتمردين ودعم الغرب لهم نحواً من نصف قرن! بل قبل أقل من عقد ونصف كادت الحركة المتمردة في جنوب السودان أن تتلاشى، وذلك عندما أعلنت الدولة الجهاد وعبأت الجماهير واستنفرت قوات الدفاع الشعبي، فهزم المتمردون شر هزيمة، ثم بدأت الانشقاقات وتوالت ظروف إقليمية وعالمية تدخل الغرب الماكر على إثرها، واستغلها ليدفع بالسودان إلى مفاوضات، بدعوى حسم النزاع، وهنا بدأت حكومة السودان في تقديم التنازلات تلو التنازلات حتى انحسر نفوذ الدولة وقوي نفوذ المتمردين، واستمر ذلك إلى أن آلت الأوضاع لانفصال جنوب السودان (كما أعلنت نتيجة التصويت الرسمية بالأمس) دون أن تتكلف تلك الشرذمة من متمردي الأمس رصاصة واحدة، وإنما عبر طاولة المفاوضات التي يديرها الغرب بذكاء أيدلوجي، وخبث سياسي، لم يقابل بنظرة عقائدية شرعية للقضية من قبل حكومة المسلمين في السودان. ولاشك أن الحكومة السودانية يقع على عاتقها عبء كبير مما آلت إليه الأوضاع، وكذلك الحكومات العربية التي لم تعبأ بما يجري، ولم تسع إلى فرض ظروف تساعد الحكومة السودانية على الثبات في وجه الدول الغربية الضاغطة، بل يشارك في تحمل جزء مما وقع كثير من المسلمين (سودانيين وغير سودانيين) الذين لم يعن لهم انفصال الجنوب شيئاً حتى الآن، فظلوا ساكتين! بل ربما رأى بعضهم جنوب السودان بكل سذاجة عبئاً على كاهل السودان أزيح! وهؤلاء لم يفقهوا رسالة الأمة ولم يدركوا واجبها، ولم يحققوا النظر كذلك في مآلات الأوضاع، ولم يفهموا بعد ما يريده الغربي الرامي بثقله في المنطقة. لقد أخطأ من ظن أن هدف الغرب إقامة دولة كريمة للأفارقة ينعمون فيها برغد العيش! ويستثمرون نفطهم المغتصب من الشمال (زعموا)، لتعيش بعدها الدولة الجديدة في سلم وأمان مع دول الجوار! فالغرب ليسوا كرماء ولا بسطاء لهذه الدرجة! فأطماعهم تتجاوز مجموعة من أبار النفط، وإنما يريد الغرب سيطرة على منطقة استراتيجية، لها أثرها على مصر، وعلى منطقة البحيرات، ولئن كانت لهم في ذلك مصالح اقتصادية كبيرة مائية ونفطية وزراعية وحيوانية لا تخفى، فإن إغفال البعد الأيدلوجي الرامي لتعزيز مكانة اليهود في المنطقة لا يجوز أن يغيب عن ذهن المسلمين اليوم، وهذا هو الأهم، فقد أثبتت الأيام أن الغرب مستعد لأن يخسر الكثير في سبيل استقرار وحماية دولة اليهود في فلسطين. وإذا كان الأمر كذلك فلتتفطن حكومات وشعوب دول مصب نهر النيل هذه المرة إلى أنها مهددة بقيام دولة جديدة في مواردها الاقتصادية، ومهددة كذلك في عقيدتها التي تجعل من اليهود المغتصبين ألد أعدائها، فلتعد من أسباب القوة المادية والعقدية ما تستطيع به مجابهة الأطماع الدولية والأيدلوجية الصهيونية. ولتتفطن الدول العربية قاطبة دون استثناء إلى أن المفاوضات مع الأقليات المدعومة من قبل قوى غربية أو مجوسية، قد تكون نتائجها كارثية على البلاد، وإذا لم تحسم المطالب وتقيم وفق نظرة عقدية شرعية أولاً وتقدر المصالح والمفاسد على ضوء ذلك، فقد تنال تلك الأقليات بالمفاوضات ما لا يمكن أن تناله بالحرب ولو امتدت قرناً كاملاً. وليستعد إخواننا في السودان لأزمة جديدة سيدعمها الغرب، تطالب بالانفصال كالجنوب، حتى تتقطع هذه الدولة الكبرى إلى دويلات وليتها دويلات مستقرة! بل دويلات مؤهلة بامتياز لأن تتناحر فيما بينها، وتنشغل بنفسها عن عدوها، وهناك سيتذكر الجميع المثل العربي الرصين (أكلت يوم أكل الثور الأبيض). وسيقول العقلاء لحكومة السودان (في الشتاء ضيعت اللبن) إذ أنهم قد انذروها قبل ذلك وحذروها من مغبة هذه المفاوضات ونتيجة هذا الاستفتاء، ولكن كان حال أولئك الناصحين كحال نبي الله صالح عليه السلام مع قومه، الذي يبديه قوله: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:79]، فحسبنا الله ونعم الوكيل.