في الانتفاضة الطلابية في ساحة بكين، قمع الجيش الصيني إرادة الشعب بشراسة، وكذلك كان مصير الانتفاضة المجرية في الخمسينيات، بيد القوات السوفيتية، وفي حماة في الثمانينات، على يد قوات حافظ الأسد. وعندما فاز الإسلاميون في الانتخابات البلدية، قدم الرئيس الشاذلي بن جديد استقالته، وتدخل الجيش للقمع، ومنع الديمقراطية أن تأخذ مجراها، بعدما هدد الرئيس ميتران بالتدخل العسكري. كلا الحالتين بينهما قاسم مشترك، هو: تدخل الجيش، والحسم المبكر بالقوة المفرطة. الفارق: أن الحالة الصينية كانت بإرادة السلطة، دون إملاء أو تدخل، ولم تلتفت لانتقادات الغرب، ولم تعره أي اهتمام؛ حيث كان يطمع في تغيير جذري نحو الحريات والرأسمالية؛ بغية إسقاط آخر نظام اشتراكي منافس قائم. أما في الحالة الجزائرية، فإن الجيش تدخل بأمر من فرنساوالولاياتالمتحدةالأمريكية، وفي الوقت نفسه لم يكن يرغب في رؤية الإسلاميين في الحكم، وهو الذي اصطبغ بالصيغة الفرنسية بكل جوانبه، فالتقت الرغبة مع الإرادة. أعقب ذلك ما هو معروف من قتل جماعي.. أطراف عديدة اتهمت الجيش بتدبيره. في أحداث تونس بالأمس، ومصر اليوم نرى شيئا مغايرا..؟!!. الشعب يثور على النظام، فيسقط بن علي في تونس، وفي مصر مبارك على وشك السقوط ربما، والميادين ممتلئة بمئات الآلاف، والجيش آخر من ينزل ويتحرك، وحينما يقرر.. يا للروعة ؟؟!!. إنه إلى جانب الشعب، والشعب يحييه، ويقف على دباباته ومدرعاته، والأقلام تسطر مشاعرها على جوانبه، في كلمات معبرة عن الرغبة العارمة لإسقاط النظام. ما الذي يحدث ؟. ما نعرفه: أن الرئيس في تونس أو مصر، هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، وتاريخ موغل في المؤسسة العسكرية؛ فالجيش يمثل عمقا استراتيجيا لهذه القيادات، وولاءا كاملا. لهذه المقدمات، فإن تصرف الجيش كقيادة مستقلة، منافرة لقرارات لمواقف السلطة، لهو أمر يثير الرغبة في معرفة المزيد مما يبدو غير ظاهر حتى الآن. فقوات الشرطة والطوارئ واجهت المظاهرات السلمية بالعنف المفرط، والقتل بالرصاص الحي، والقوات السرية تغلغلت في وسط الجموع، فاعتقلت، وضربت، وسحبت. ومما تسرب من خبر: أن قائد الجيش في تونس "رشيد عمار"، امتنع من الامتثال لقرار بن علي في ضرب المظاهرات. ولو ثبت، فهو عصيان غير معتاد. واستقلال الجيش - الذي هو ضمن المؤسسة العسكرية، وتحت السلطة المباشرة للرئيس - بمواقفه، والاتجاه نحو النشاط السلمي، مجرد تسجيل حضور في الميدان: يخالف ما عرف عن الأنظمة الدكتاتورية من قمع مبالغ، فكيف حدث ذلك ؟!. دور الجيش في هذه الأحداث، ووقوفه السلمي مع الشعب، يطرح تساؤلا: لم نعثر حتى الآن على إجابة واضحة عنه، في ظل انشغال وانهماك الناس في تفاصيل الانتفاضة: من أين يتلقى الجيش أوامره، وكيف اتخذ موقف الكف: أهو قرار مستقل ذاتي نابع من محض القناعة لدى قياداته، بعيدا عن أي تأثير خارجي، كالحالة الروسية حين وقف الجيش مع بوريس يلتسين الممثل لإرادة الشعب، أم بتأثير من القوى الكبرى الراعية لهذه الأنظمة، وهل للجيش دور آخر لم يفصح عنه حتى الآن ؟. فقد لوحظ في مواقف الدول الغربية: الولاياتالمتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا. توافقها على توجيه رسائل محددة إلى الحكومتين: ضبط النفس، نبذ العنف، احترام حقوق وخيارات الشعب. ثم التوجيه والإشارة بنقل السلطات إلى حكومة جديدة، بطريق سلمي، كما في تصريحات الإدارة الأمريكية أخيرا. هذا مع استمرار الدعم المالي. والرسالة واضحة، هي: الاستغناء عن الحليف الاستراتيجي. والاستغناء بحد ذاته ليس غريبا، فمثله حدث مع شاه إيران وماركوس الفلبين، مع كونهما حليفين مهمين للغرب، فهذه القوى لا تعير مبدأ الوفاء أي عناية، إذا ما تغيرت الخطط الاستراتيجية، فعجزت الحكومات الحليفة القائمة عن تلبية متطلباتها، فهناك جيش من البدلاء، من معارضة وغيرهم، بعضهم صنيعة أمينة، معدة لمثل هذه الحالات. فالحكومة المصرية قدمت كثيرا لأجل السلام مع إسرائيل، تخلت لأجله عن كثير من المواقف: الاستراتيجية القومية، والعربية، والإسلامية. وقبلت ورضخت لكثير من الاملاءات الأمريكية، ليس آخرها قبولها بتقسيم السودان. متانة هذا الحلف دفع بالحكومة الإسرائيلية إلى إظهار القلق مما يحدث في مصر. في ظل هذا الحلف الاستراتيجي، كيف تتخلى القوى الكبرى عن دعم الحكومة والرئيس، في هذه الأزمة بهذه البساطة، وتتركه لمصير مجهول ؟. هناك تفسيران، أحدهما ربما بدا ضعيفا للوهلة، وهو: أن الاستخبارات الغربية، هي المدبرة لهذه الانتفاضة بطرقها الشيطانية الخاصة، المطبوخة في "وكر الشيطان"، بحيث تبدو وكأنها انتفاضة عفوية جماهيرية خالصة، ولا يرشح منها شيء ينم عن حقيقة ما ورائها. ومن وقف على عمليات "وكر الشيطان" وليس آخرها إسقاط البرجين، أدرك استعداد هذه الجهات على تدبير أي خطة وتنفيذها، مهما بدت مستحيلة، منافية للأخلاق أو التوقعات، فالمبدأ الميكافيلي هو الذي يوجه هذه الدوائر، مع قدرات متيقظة مستعدة. والهدف: خلق حكومات جديدة لديها الاستعداد لتقديم المزيد من التنازلات، وتحقيق ما تحرجت منه الحكومة السابقة، أو عجزت؛ لانتهاء عمرها الافتراضي، كالموافقة على تقسيم مصر إلى ثلاث دول: غرب النيل، وشرق النيل، والجنوب. وغير ذلك. لكنه احتمال لا يوجد عليه حتى الآن دليل يؤكده؛ لقرب الأحداث، والأيام حبلى. ولأن الظاهر: أنها انتفاضة تفجرت عفويا مع معاناة البوعزيزي (=تونس)، وكان للفيس بوك ورويتر دور أساس في الجمع والتواصل، والتخطيط، ثم النزول إلى الشارع (=مصر). التفسير الثاني: أن الغرب نفسه فوجئ بهذه الأحداث، وأدرك أنها هبة جماهيرية تعجز الأنظمة عنها، وعادته في هذه الحالات: أنه يراقب ما يؤول إليه الأمر، وينشط على صعيد آخر؛ استخباراتي بامتياز، لمحاولة استغلال نتائج هذه الثورة، لخلق حكومة ذات وجوه جديدة؛ تؤدي ذات الدور السابق في الحكومة المنتهية. وهذا مكمن الخبث السياسي!!. أن تجني جهات محددة ثمرة الثورة الشعبية لصالح القوى الغربية، وتخرج الجماهير من المولد بلا حمص، كما يقولون. وهذا حدث كثيرا؛ في مصر استثمر جمال عبد الناصر ثورة الشعب، واستطاع أن يحصد الثمرة وحده ويزيح شركاءه، الذين كانوا يتقدمونه في المرتبة والتعبئة. وفي سوريا انتزع حزب البعث ثمرة الاستقلال وحصرها في الطائفة النصيرية العلوية. وهذه الأنظمة كانت منسجمة إلى حد بعيد، مع مصالح القوى الغربية، وإن خالفت لماما. فهذه الثورة في تونس ومصر مرشحة لأن تنجح في إزالة رأس النظام، وربما النظام نفسه، نعم هذا صحيح، لكنها غير مأمون ألا تأتي بوجوه جديدة، تضاهي الحكومة السابقة في تحالفها مع النظم الغربية، والمؤشرات موجودة: ففي تونس لازالت الحكومة السابقة تحتفظ بسيطرتها بوجود رئيس الوزراء، وأعضاء الحزب الحاكم، وهناك أحزاب ماركسية شيوعية حمراء تنافس على السلطة، والمظاهرات مستمرة، والقمع عاد من جديد، والحكومة تماطل وتؤخر وتتلكأ، ولا ريب أن الجيش يتحمل مسؤولية ما يحدث؛ لأنه القوة المسيطرة. نعود للحديث عن الجيش، الذي هو محور القضية اليوم.. حيث إنه القوة البديلة المسيطرة على البلاد، وموقفه غير واضح ؟!!. فإنه لم يتخذ حتى الآن موقفا منسجما مع إرادة الشعب؛ بالإزالة التامة للنظام الحاكم، مع اتخاذ الإجراءات الدستورية لإجراء انتخابات نزيهة، ثم نقل السلطات إلى حكومة شعبية. وقد يكشف هذا عن عدم استقلالية القرار في الجيش ؟. فمن المعروف التعاون الوثيق ما بين الجيش المصري والقوات الأمريكية، والجيش التونسي والقوات الفرنسية وحتى الأمريكية، وقائد الأركان المصرية هذه الأيام في الولاياتالمتحدةالأمريكية، توقيت غريب لموعد الزيارة المزامنة للانتفاضة، مع تأخر في العودة.. ماذا يفعل هناك ؟. على كل هي تساؤلات، والأيام تحمل معها جوابها، فنحن في انتظار لما تسفر عنه النتائج من حكومة تحقق تطلعات المحرومين، وعلى الناس أن يكونوا على وعي كامل، وإدراك ناضج لما يحدث في هذا التوقيت، حتى لا تضيع من أيديهم فرصة التغيير، وألا تنسي الأحداث بعضها بعضا، فتوقيت انتفاضة مصر كانت خاطئة، حيث إنها غطت على انتفاضة تونس، مما غيبها عن الأضواء، وغيابها يعطي الفرصة للتلاعب بنتائجها.