لا أعتقد أن التاريخ سيسجل عاطلاً شهيراً كالتونسي الراحل محمد البوعزيزي، صاحب عربة الخضار المتنقِّلة، التي اندلعت منها انتفاضة غضب شعب بأكمله؛ فهذا الشاب الذي تخرّج من الجامعة، دون أن يجد وظيفة، حاول أن يقتل البطالة التي يعاني منها، دون أن يتسوّل أو يمد يده للناس، اتّخذ عربة خضار متنقّلة، حتى جاء اليوم الحزين الذي أوقفته فيه الشرطة ومنعته من البيع بحجّة أنه لا يحمل «رخصة قانونية»؛ فأسقط في يده، وتوجّه إلى مقر الولاية كي يشكو حاله للمسؤول، لكن الباب المغلق لم يُفتح له مطلقًا، وتم منعه من الاتصال بصاحب القرار والتظلّم إليه؛ فأحرق نفسه غضبًا على قطع رزقه من جهة، وعدم الإنصات إليه من جهة أخرى، وتعرّض إلى حروق خطيرة أبقته في المستشفى حتى مات، لكنه أحيى آلاف الشباب التونسي، فأيقظ ثورة الغضب الشعبي التي استمرت أربعة أسابيع فقط حتى أطاحت بالرئيس، وبقي هذا الشاب رمزًا لثورة الغضب الشعبي في تونس. كثير من البلدان العربية تعاني الغلاء المعيشي المتصاعد، والأرقام المهولة والمعدلات المفزعة من البطالة، الملايين من الشباب والشابات غاضبون على أوضاعهم المزرية، وجلوسهم هكذا دونما مورد يعيشون منه، الملايين منهم فقراء وجائعون، الملايين منهم ملّوا انتظار الأمل، حتى أصبح الأمل نفسه كابوسًا ووهمًا لا يمكن انتظاره، بل يجب الذهاب إليه. هكذا ذهب الشعب التونسي بقدميه إلى الأمل، وسحبه معه في الشوارع والطرقات، وقالوا له: أيها الأمل انتظرناك طويلاً، ولم تأتِ، فجئنا إليك، وجئنا بك إلى أرضنا الخضراء، فتنفّس قليلاً، وأنعشنا كي نعيش، تعال أيها الأمل كي نبني تونس الخضراء، تونس الخالية من الفساد الإداري والمالي، تونس الخارجة ببياضها من قمع الحريَّات، وحجب الإنترنت والصحافة، تونس التي ترفض لجم الأفواه، تونس التي لا تنام على الضيم والظلم. هكذا لا يريد الشعب بلادًا لم تعد تحتمل حتى المشي في جنازة شاب أحرق نفسه اعتراضًا على الظلم والقمع، حتى وهو مجرد جنازة محمولة على الأعناق تم منعه من المرور أمام المقر الرسمي لمحافظة سيدي بوزيد، المكان ذاته الذي بكى حرقة وهو يريد أن يتكلم أو يتظلّم أو حتى يموت! انتفاضة الشعوب ليست انقلاب عسكر وسطوتهم، وليست تمرّد أحزاب معارضة، ولا تدخلاً خارجياً في شؤون داخلية لبلد، بل هي مجرد ردم هوَّة الجوع والفقر والحاجة، انتفاضة غير مقرونة بخلع فلان ورئاسة علان، بل هي انتفاضة اقتصادية بالدرجة الأولى، انتفاضة شعب يريد أن يعيش، أن يأكل ويشرب وينام بأمان؛ فالجوع والفقر هما نتيجة حتمية للبطالة، والبطالة هي نتيجة طبيعية للفساد الإداري والمالي؛ فالشعب التونسي شعب مسالم ومحب للحياة والأمان، لكنه لا يقبل بأن تُسلب منه هذه الحياة، وهم أحفاد أبي القاسم الشابي، الذي ورّثهم دستورًا راسخًا: إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر