الفكر المستقبلي ليس تخطيطاً يشترط فيه كثير من الناس ويضعونه في بضع وريقات ربما يُستفاد منها كلياً أو جزئياً، وقد يبقى حبيس مثواه الذي قطنه لبضع سنين، ثم يتم التخلص منه بالرمي أو الحرق، فهو شيء من الموروث الثقافي وربما الجيني، يقفز إلى ذهن المرء في كل خطوة يخطوها وقرار يتخذه في أيامه المتعاقبة. الطالب صاحب الفكر المستقبلي يعلم أن هناك اختبارا بعد أسابيع ويكون ذلك الاختبار ماثلا أمام عقله الباطن فيجتهد منذ يومه الأول لأنه يعلم أن المستقبل يتطلب قدرا من المعلومات لا يمكن نيلها في الأسبوع السابق للاختبار. ورب الأسرة صاحب الفكر المستقبلي يتحسس مواقع القوة والضعف لدى أبنائه فيعمد إلى دفعهم بما يتوافق مع قدراتهم الذهنية مع عدم إغفال رغبتهم وميلهم الذي ربما يكون متبلوراً بتأثير الأقران من الأقرباء والأصحاب. والتاجر صاحب الفكر المستقبلي يحسن الاستثمار وتوقيت المخاطرة، ومواضع الأقدام والأحجام مستمداً ذلك من فكره المستقبلي الذي جبل عليه. والإداري قد يكون أكثر تحقيقاً لنجاح إدارته من خلال فكره المستقبلي الموروث ثقافياً وربما جينياً، يستطيع أن يرفع من شأن إدارته. وهنا يحسن بنا أن نتوقف قليلاً لنسلط الضوء على النقطة الهامة في الإدارة فليس عسيراً على المرء أن يأتي الصباح إلى مكتبه ويوقع بعض ما يستوجبه العمل اليومي ويوجِّه بما تقتضيه الحال، فينجز الكثير من الأعمال، غير أن الأهمية تكمن في الفكر المستقبلي الإداري في كونه يستقرئ الأحداث المستقبلية، فيكون في صراع مع شهواته التي قد تميل به إلى الاستمتاع بالسلطات الإدارية دون فكر مستقبلي يكبح من جماح تلك الشهوات التي كثيراً ما تدغدغ عقل الإنسان في كل قرار يريد أن يتخذه في حياته اليومية، غير أن الإداري يمتد أثر تغليب شهوته على فكره المستقبلي إلى المساس بقطاعه المسؤول عنه ومن ثم الخدمات التي ينجزها ليستفيد منها الناس والتي جعلها الله تحت يده. والسياسي صاحب الفكر المستقبلي يستطيع أن يوارب الأمور وينظر إليها بمنظار المستقبل متغلباً على نوازع شهواته الذاتية لتلك الأهداف المستقبلية النبيلة التي تعود عليه وعلى مجتمعه بالخير العميم، والتاريخ رسم لنا لوحات كثيرة قديمة وحديثة طالباً من بني البشر الاعتبار، لكن الإنسان فيما يبدو ظل يقرأ التاريخ للمتعة وليس للاعتبار. وحتى في الحروب فإن الفكر المستقبلي هو الذي حقق الكثير من الانتصارات وليست الشجاعة بمفردها. ولهذا فقد قال المتنبي: الرأي قبل شجاعة الشجعان هي أولا وهو المحل الثاني فإذا هما اجتمعا لنفس مرة بلغت إلى العليا أعز مكان ولربما طعن الفتى أقرانه بالرأي قبل تطاعن الأفران لولا العقول لكان أدنى ضيغم أدنى إلى شرف من الإنسان