محمد بن سعود الجذلاني - الر ياض السعودية من المظاهر التي أعتبرها محفزاً على الفساد ، وعائقاً أمام الوطنية الصادقة ، أنه قلّما تعيّن مسؤول جديد سواء أكان وزيراً أم أقل ّ منه رتبة إلا ويبادر إلى تغيير كامل الطاقم الإداري من الموظفين الكبار ممن كان قبله ويأتي بأشخاص جدد ينتقيهم إما من الجهة التي أتى هو منها، أو من معارفه وأصدقائه. وحتى أكون منصفاً فإن كثيراً منهم يعمدون إلى هذا النهج بحجة أنهم يريدون التطوير والإصلاح وإحداث تغيير إيجابي في الوزارة أو الجهة التي عيّنوا فيها ، وأنهم يعتقدون أن من أفضل الوسائل لنجاح خطط التطوير والإصلاح استعانة المسؤول بفريق عمل على درجة من الانسجام والتفاهم . إلا أن هذه الظاهرة في حقيقتها أدت وما تزال تؤدي إلى نشوء حالة قد أقسو في توصيفها لحد القول : إنها انشقاق على الولاء الواجب للوطن الكبير والسعي إلى صالحه العام عبر التجرد للعمل على تحقيق مصلحة تلك الوزارة والنهوض بواقعها والتخطيط السليم لمستقبلها ، إلى قيام ولاء خفي لذلك الوزير أو المسؤول الذي يعتقد كبار موظفيه ومستشاريه أنه صاحب الفضل عليهم في إتاحة الفرصة لهم للظهور والوصول إلى مناصب وفرص وظيفية لم يكونوا ليحظوا بها لولا كرم وسخاء وحسن ظن وثقة وزيرهم المبجل !!. إن بعض الصالحين إدارياً ممن يحظون بمثل هذه الفرصة تجدهم وإن تورعوا عن السعي لتحقيق مكاسب مادية من وراء وظيفتهم إلا أنهم لا يعذرون أنفسهم في تحقيق مصالح معنوية لهم عبر خدمة القريب والصديق ومن ناحية أخرى هناك ما هو أخطر وأسوأ فهم يعتقدون أنه وفقاً للسنة المتبعة التي أتت بهم إلى مناصبهم فإن بقاءهم فيها مرتبط ببقاء وزيرهم والمسؤول الذي أتى بهم معه ، إذاً فكثيرون ينظرون لهذا الأمر على أنه فرصة لا ينبغي تفويتها لتحقيق أكبر قدر من المصالح والمكاسب والإنجازات على المستوى الشخصي التي قد يكون من الصعب عليهم كثيراً أن يحققوها بعد تركهم لمناصبهم وفوات فرصة العمر التي لا تأتي إلا مرة واحدة . هذه الظاهرة الخطيرة المستمرة لا تدع مجالاً للتفكير في مصلحة الوزارة أو الإدارة التي يقوم على سدتها هذا الفريق من المسؤولين ، بل إنها محفز كبير على الفساد المالي والإداري بحيث يصعب كثيراً إقناع مثل هؤلاء المسؤولين بالتجرد من مصالحهم الشخصية والتركيز على تحقيق مصلحة الوطن العليا وتقديم الخدمة ذات الجودة العالية للمواطنين الذين ترتبط مصالحهم بتلك الجهة . بل إن بعض الصالحين إدارياً ممن يحظون بمثل هذه الفرصة تجدهم وإن تورعوا عن السعي لتحقيق مكاسب مادية من وراء وظيفتهم إلا أنهم لا يعذرون أنفسهم في تحقيق مصالح معنوية لهم عبر خدمة القريب والصديق تحت مظلة (المروءة ومساعدة الآخرين والشفاعة الحسنة) لأن القبيلة والمجتمع المحيط بالفرد لا يعذرانه إن تأخر عن الفزعة لجماعته وقبيلته وجيرانه وكل من له صلة به حتى وإن كانت تلك الفزعة على حساب حقوق الآخرين والمصلحة العامة. ثم إنه في ظلال هذه الظاهرة السيئة بكل المعايير تندرج أصناف من القبائح الأخلاقية المتمثلة في سعي بعض أعضاء الفريق الجديد أو الموظفين السابقين في الوزارة ممن لم يحظوا بفرصة المنصب أو القرب من الوزير السابق إلى تصفية حساباتهم مع أعضاء فريق ذلك المسؤول أو الوزير والمبالغة في الحط ّ من قدرهم وإذاقتهم أسوأ صنوف التهميش والتجاهل حتى لا يبقى لهم ذكر ، ولا في النفوس قدر بعد أن كانوا أهل الحل والعقد والصولة والجولة ، وإذ بك تسمع الناس من حولك يتهامسون : (لكل زمان دولة ورجال) بل إن تصفية الحسابات قد لا تقف عند حد التهميش والإهمال إنما تتجاوزه إلى درجة فتح السجلات القديمة ونبش المستور والبحث عن أي مخالفات أو جرائم أو حتى ما يمكن أن يوصف بأنه مخالفة وإن كان في وقته هو عين الإصلاح وموجب الاجتهاد والخيار الأكثر تحقيقاً للصالح العام ، فإذ به ينقلب مخالفةً تستوجب المساءلة المسلكية التأديبية التي يكفي من إثارتها تشويه الصورة والإساءة لسيرة الموظف الذي قد يكون كفؤا . كما أن مما يندرج تحت هذه الظاهرة من مساوئ أنه كثيراً ما يحدث أن يكون بعض أعضاء الفريق الجديد للوزير أو المسؤول المعين حديثاً يُسند إليهم القيام بمهام وأعمال لا تمت لتخصصهم بصلة ، ولم يكن لهم فيها أدنى درجة من الخبرة السابقة والدراية بطبيعتها وما يطرأ فيها من إشكالات يقف أمامها ذلك المسؤول الجديد حائراً تائهاً غارقاً في تفاصيل قد لا يكون سمع بها يوماً في حياته ، فهل يمكن أن يقال إن الهدف من وراء ذلك تحقيق المصلحة العامة للوطن الكبير؟ لا أعتقد عاقلاً يجيب بنعم . وفي ظل هذه الظاهرة يطول العجب من صور كثيرة لامنتهية من القرارات التي يصدرها ذلك المسؤول الجديد التي تتسم بالاستثناءات من الأنظمة سواء في تحوير مسميات الوظائف أو في تغيير معالم الواقع الذي وجد وزارته تسير عليه ، أو في التفتيش عن أي ثغرات في النصوص النظامية كل ذلك لتحقيق أهدافه التي لم يعد يرى أي فارق بينها وبين الصالح العام ، فما يراه معاليه أو سعادته أصبح هو عين المصلحة العامة لا فرق ، بل إنه يخيل إليك أن الوزارة أو الإدارة أصبحت ملكاً فردياً لذلك المسؤول يتصرف فيها كما يتصرف في أملاكه الخاصة تماماً ، ومن الطريف في الأمر أن العلو والانحدار الذي يشمل أعضاء فريقيْ الوزيرين السابق والحالي لا يقف عندهم وإنما يتعدى في بعض الإدارات والوزارات إلى بعض المراجعين من المواطنين بحيث تجد مراجعاً ليس من منسوبي الوزارة يسعى منسوبو الوزارة إلى خطب ودّه وكسب رضاه أو حتى الخوف من سطوته وغضبه لما له من حظوة يرونها عند صاحب المعالي ، فأصبح معيار الولاء والبراء عندهم هو مدى رضا الوزير أو سخطه ، بل لو صادف أن كان لك صديق أو زميل في تلك الوزارة وكانت علاقتك بذلك الوزير على غير المطلوب تفاجأ بأن صاحبك يقول لك:لا أهلينك إني عنك مشغول . إنه لا يمكن لنا أن نسكت عن طرح هذه المشكلة أو مناقشتها أو السعي للحد منها إذا كنا نأمل في تحقيق إصلاح شامل وترسيخ قيم الوطنية الصادقة في نفوس أفراد هذا الوطن وتشجيع الموظف الكفء على الاستمرار في الارتقاء بأدائه والحفاظ على استقامته ونزاهته المالية والإدارية وتقديم مصلحة الوظيفة العامة على مصالحه الشخصية . والحمد لله أولاً وآخراً هو سبحانه حسبي ونعم الوكيل . *القاضي السابق في ديوان المظالم والمحامي حالياً