"إنَّا لا نستعين على عملنا بمن يريده" مقولة خاطب بها النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً طلب توليته عملا، وهي قاعدة سار عليها القياديون من صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام.. ولم يكن ذلك خاصاً بأمة دون أخرى، فمثلا: النصارى وضعوا شرطاً صارماً في هذا الجانب، إذ تقول قاعدتهم: لا نختار للجثلقة إلا زاهداً فيها، هاربا منها، غير طالب لها. وهنا يأتي سؤال عريض: لماذا تكاد الأمم تتفق - على اختلاف مشاربها - على رفض تولية الشغوف بالمنصب؟ تاريخ أمتنا الطويل سجَّل جنايات المتسلقين على مجتمعاتنا.. قد نجد إجابة هذا السؤال عند الخليفة المحنك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال لشخص ظن فيه كفاءة قبل تعجله طلب المنصب: والله لقد كنت أردتك لذلك، ولكن من طلب هذا الأمر لم يُعَن عليه!!، ومربط الفرس، هنا - كما يقولون - في "لم يعن عليه"، فما سر هذه الحكاية؟.. لو قرأنا سجل الشخصيات المتسلقة منذ فجر التاريخ، فإننا سنكتشف، وببساطة متناهية، أن عشاق المناصب -بعد أن تمكنوا من دفتها- كانوا غير جديرين بإدارتها، لأن نفوسهم نزاعة إلى رغباتهم الخاصة، ومطامعهم لا تقف عند حدود، ومن السهل أن تضحي هذه الفئة، في سبيل أهدافها الشخصية، بأمانة مسؤولياتها القيادية، وهذا ما رمز إليه الفاروق في خطابه "من طلب هذا الأمر لم يُعَن عليه"، إذ رأى لهفة الوصولية مخلة بشرط الكفاءة، وقاتلة لها، بغض النظر عن كل المؤهلات والمزايا التي تتمتع بها الشخصية الاستغلالية. "الأتقياء" رفضوا المناصب! ومنذ فجر التاريخ الأول -أيضاً- أدرك الأتقياء الصادقون أن المناصب عبء ثقيل، وأمانة مرهقة، وهذا ما جعلهم -مع كفاءتهم- يفرون منها، ويرفضون هذه المنح السلطوية، فكان ثمن ذلك أن أرهقت سياط الخلفاء أجسادهم، وفي الوقت نفسه كان الوصوليون يواصلون ركضهم خلف طموحاتهم، فينالون مطامعهم، ولا غرابة أنْ نجدهم سبباً في مآسي هذه الأمة، عبر تأريخها الطويل، وما عليك إلا أن تعيد قراءة التأريخ لتعرف كم جنوا على الأمة والتاريخ معا!! هذا فيما مضى، فكيف موقف هذه الشخصيات الانتهازية في عصرنا الحديث؟، وما أثرها في مجتمعنا المعاصر؟ وما أهم جناياتها على الأمة؟، ثم أليست هناك معايير يتم انتقاء الأكفأ على ضوئها؟.. يبدو أن كتاب "الأمير" لمكيافلّي كان مرجع الوصوليين الذي بنوا عليه استراتيجياتهم النفعية في العصر الحديث، منطلقين من قاعدته "الغاية تبرر الوسيلة"، فكانت جنايته باهظة الثمن على المجتمعات الحديثة. وإذا نحينا ذلك جانباً، وبحثنا في معايير اختيار القيادات نجدها ترشح الأقدمية والكفاءة، وهناك جدل كبير بين تقديم الأقدم أو الأكفأ، فبعض المتنفذين يرى أن اختيار قيادة المؤسسات يكون عن طريق الأقدمية، لأن صاحبها حاز على خبرة كافية تؤهله لمسيرة إدارية ناجحة، بينما يرجح آخرون تولية صاحب الكفاءة لجدارته وتأهيله الذاتي الذي يجعله قائدا من الطراز الأول. أ.د.عبدالرحمن هيجان تأتي توصية المسؤول بتعيين شخص بعينه في مكان ما، متجاوزة للمعيارين السابقين، حيث تقف وراءها غايات شخصية لا علاقة لها بالجدارة، ومن أهم دوافعها: الانتماء الذي يلعب دوراً كبيراً في اختيار أشخاص بعينهم، قد يكونون غير مؤهلين لتولي ذلك المنصب، إما لعجز إداري أو لجهلهم بمتطلبات هذه الوظيفة القيادية. ولا شك أن أهم الانتماءات التي تقف وراء هذه التوصيات تكون –عادة-مناطقية أو قبلية أو أسرية، ثم جدَّ انتماء آخر شديد الخطورة، مرتكزه مذهبية بحتة، حيث يلحظ في الآونة توصيات خفية غير منظورة يقوم بها بعض المتطرفين لدعم من ينتمون إلى مذهبهم، وزرعهم في أجهزة الدول التي يعيش فيها أصحاب هذه النزعة، وهذا التخطيط المدروس يرمي إلى وضع المتنفذين في مناصب مهمة ليسهلوا لهم تنفيذ مخططاتهم ذات النفس الطويل. وعلى الرغم من وجود معايير لاختيار الكفاءات، إلا أن هناك فريقاً آخر استطاع أن يصل إلى مناصب قيادية أقنع فيها المتنفذين من خلال قدرته على تلميع شخصيته، وفلاشات الحضور التي أحاط بها نفسه فأوهم بها الآخرين، أو من خلال التزلف والقفز فوق أسوار القانون لإرضاء مسؤول ما، على طريقة ( شيلني وأشيلك)، وهذا هو الوصولي الذي يقفز على كل المعايير ويأتي إلى المنصب مجردا من الكفاءة والجدارة والتخصصية. خطر الوصولية.. "الرياض" طرحت هذه القضية على عدد من المثقفين والمتخصصين، واستخلصت رؤيتهم، حيث تحدث في البدء الناقد السعودي المعروف أ.د. صالح بن سعيد الزهراني عميد كلية اللغة العربية بجامعة أم القرى الذي وصف الوصولي بأنه رجل متمركز حول ذاته، وقيمة الأشياء والأفكار عنده ليست في جوهريتها ولكن في قربها من المركز.. وتمركزه حول ذاته كارثة، لأن الذات تصبح هي المعيار في الحكم، والنموذج في السلوك، مشيراً إلى خطورة الوصولي على المجتمع، لكونه -دائماً- مشغول بالعرضي والتافه، وبالمصلحة على حساب المبدأ، والمكسب على حساب القيمة، فالوصولي كائن بلا ملامح، وبلا قضية، لا يتورع في سبيل الوصول إلى غايته من تدمير كل شيء، واتنصل من قيم الفطرة والمواطنة والإنسانية.. المهم أنا والآخر في الجحيم، مؤكداً على أن من أعظم معضلات المثقف العربي المزمنة هي الوصولوية والنفاق، وحين تصبح الوصولية ثقافة يتحول الناس إلى مجموعة من القوارض التي تأكل جسد المجتمع، وتُعجَِل بفنائه، والتاريخ شاهد على ما نقول..فلم نجن من الوصوليين سوى شوك السعدان، والعرب تقول: "إنك لا تجني من الشوك العنب". الوصولية.. بلا مبادئ ولا ولاء أما أ.د عبدالرحمن بن أحمد هيجان -أستاذ الإدارة العامة وعلم النفس، عضو مجلس الشورى- فقال: ظاهرة الوصولية تفسر من عدة علوم: الإدارة والنفس والاجتماع، وهي تعرف أيضا بالانتهازية، ويسميها الميكافيليون "الغاية تبرر الوسيلة"، مشيرا إلى أن تعريف الوصولي يختلط عند بعض الناس مع الشخص الطموح الذي يصل بجهده، وعلينا أن نفرق بينهما، فالشخص الطموح عمليٌّ لديه هدف بيّن وبرنامج، وقدرته على التنفيذ واضحة، ولديه أفكار إبداعية، لكنه ليس حالما فقط، والوصولي ليس بعيدا عن هذا، لكن قدرته كامنة في الإقناع الكلامي لا الرؤيا البناءة، وهو يختار ضحاياه جيدا، حيث يعمد إلى الأشخاص الذين لا ينكشف أمامهم بسهولة، ويوهمهم بأن أهدافه لا تتحقق إلا بعد مدة طويلة، وخلال هذه الفترة يكون هو قد حقق أطماعه، مؤكدا على أن الوصولي غير قادر على تحقيق هدف ناجح، ويعتمد في إقناعه على الكلام، ومن أبرز سماته أنه يتنازل عن مبادئه بسهولة، وولاؤه ضعيف جدا، فإذا التزم بقيادة إدارية في منظمته، ثم ظهر من هو أقوى منها غيّر جلده إلى الطرف الآخر. د.فهد العنزي لا تمنح الفرص للأكفاء! وينبّه هيجان إلى سمات هذه الشخصية الماكرة التي تجيد الدخول والمغامرة بقوة في المشاريع المحظورة أحيانا، مبيناً أنها عندما تصيد ضحاياها تعرف أنها لن تخسر، موضحاً أن الوصولي لن يضحي من أجل خدمة الآخرين، إذ هو ضعيف بل معدوم الولاء للأشخاص وللجهات التي يعمل فيها، ويجيد إلقاء اللائمة على الآخرين، ولو أخطأ مرة، فليس لديه ما يمنعه من ارتكاب الخطأ نفسه مرة أخرى، لأنه صاحب هدف غير نزيه، ورغم حذاقته في سبيل تحقيق أهدافه فهو يكرر أخطاءه التي ارتكبها مع ضحايا سابقين، مع ضحايا جدد على أمل أن تثمر مع الآخرين. ويشير هيجان إلى أن لهذه الشخصيات الوصولية أضرارها البالغة على المجتمع، فالوصولي شخص غير ملتزم، وفي المقام الأول هو يبحث عن مصالحه الشخصية، لا يهمه الآخرون، فمبدؤه "أنا ومن بعدي الطوفان"، ملفتاً إلى أن من أخطر سلبيات الانتهازيين على المجتمع أنهم سيكونون في المستقبل أكثر تحيزا، ولا يسمحون إلا لفئة محدودة ممن يتبادلون معها المصالح، يقربونهم ويتقربون منهم، وعندما يكون الوصولي صاحب قرار في التوظيف لا يعين إلا من يعتقد أنه يستفيد منهم، إذ ليس لديه موضوعية ولا يؤمن بالجدارة في العمل، فهي ليست معياراً عنده.. حتى إذا قدّم شيئا في عمله فهو من منظور مصلحته. الوصوليون مرضى العصر.. ويرى د.فهد بن حمود العنزي - عضو مجلس الشورى - أن الوصولية هي أحد إفرازات حضارتنا المدنية المعاصرة والمتمثلة في انسياق الإنسان وراء المادة بشكل كبير، بحيث أصبحت القيم والضوابط الاجتماعية والأخلاقية أضعف بكثير مما كانت عليه في السابق، والوصوليون هم مرضى هذا العصر وهم الذين تفننوا في تغليب الجانب المصلحي البحت على حساب التعاليم الدينية والضوابط الاجتماعية والأخلاقية، فهم يعملون وفق مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" وغايتهم تحقيق مآربهم الخاصة ومصالحهم الفردية على حساب حقوق الآخرين أو حتى على حساب المصلحة العامة، فهم يتلونون ويتشكلون بحسب مصالحهم، وبما يقربهم بشكل أكبر من مصدر هذه المصلحة، وهم من أسرع الناس في التخلي عن مبادئهم وأفكارهم وتشكيل مشاعرهم ليظفروا بمنصب أو سلطة أو مصلحة مادية. الفساد الإداري ويلح د.العنزي على نقطة مهمة وهي كون الانتهازيين أقدر الناس بل وأجرؤهم على التلاعب بالأنظمة وابتكار الوسائل المبنية على التحايل والخداع والرشوة والمحسوبية للوصول إلى أهدافهم، مبيناً أن مقاييسهم للمجتمع مادية بحته مبنية على مراكز السلطة والنفوذ والمستوى الاقتصادي ولا يعيرون اهتماما للضعيف أو صاحب الحاجة بل إن جهدهم يرتكز على خدمة من يرجون منه نفعاً دنيوياً أو مادياً. ويشير العنزي إلى بيئة الوصوليين المريضة، حيث تكثر بينهم المشاحنات والدسائس، إذ يضربون بعضهم بالخفاء، فهم انتهازيون متملقون، سريعون في تحديد فريستهم، سريعون في إدارة ظهورهم لها عندما يحصلون منها على ما يريدون. وعن تأثيرهم على مسيرة التنمية يؤكد العنزي أن هذه الفئة همها الأكبر يرتكز على دائرة الاقتصاد، إذ هم يبحثون دائما عن منافع مادية مباشرة ولذلك فهم ينشطون في حقل الوظيفة والتجارة والاقتصاد عموماً وهم بحق أعداء المصلحة العامة، وكما يعرف الجميع فإن التنمية الاقتصادية ترتبط بمصلحة المجتمع ولذلك فهم يُعدون معول هدم للتنمية الاقتصادية وهم كذلك سبب مباشر في تأخير عجلة التنمية بل وسبب مباشر في انحراف مسارها لأنهم يحرمون أصحاب الكفاءات من تولي الوظائف العامة، وبخاصة الخدمية منها، إذ يتسابقون في التزلف للحصول عليها ويوهمون المسؤول عن طريق التحايل والغش والكذب بأنهم أقدر وأكفأ من يتولاها، وعندما يشغلون مثل هذه الوظائف يقربون الموظفين الذين يقومون بتغطية انحرافهم وعجزهم عن إدارة شؤون الوظيفة. الرقابة والمحاسبة كفيلان بوأدهم ويطالب العنزي المسؤول المتنفذ أن يختار الموظفين الأكفاء القادرين على أن يكونوا عوناً وعيناً له على محاربة الفساد وتطبيق الأنظمة فولي الأمر - حفظه الله - شدد في كثير من المناسبات على العمل بأمانة وإخلاص وأن يكون كل من وَلِي أمراً على مستوى الثقة، مؤكدا أن الرقابة والمحاسبة عامل مهم في محاربة الوصولية والانتهازية، وأن أمر خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - بخصوص ما حدث في جدة من سيول صورة جلية على محاربة الفساد، حيث لا ينبغي السكوت عن كل من تولى وظيفة عامة أو أُوكل إليه أمراً معيناً كما هو الشأن في الأعمال الإنشائية ولم يقم بما ينبغي عليه أن يقوم به، فالرقابة والمحاسبة والدقة في الاختيار قبل ذلك عامل مهم وداعم أساسي لترسيخ العدالة وتحقيق التنمية ومحاربة الانحراف والفساد، ملفتا النظر إلى أن لدينا الكثير من الأنظمة التي سنها ولي الأمر لمحاربة ظاهرة الفساد الذي يقف خلفه الوصوليون.