على مشارف عيد الميلاد من كل عام، يحاول البابا بنديكتوس السادس عشر، الإطلال على المسيحيين. فعل ذلك خلال السنوات الأربع الماضية، وفعله هذا العام، عندما أجرى حديثاً طويلاً مع صحفي ألماني متخصص بشؤون الكنيسة الكاثوليكية. سمَّى الصحفي الكتاب الصغير الذي يتضمن أجوبة البابا على أسئلته "نور العالم". والأسئلة في الأصل عن قضايا ومشكلات تواجهها الكنيسة الكاثوليكية منذ مدة، مثل تكهين النساء، واستخدام حبوب منع الحمل، وإجازة الإجهاض، وعلاقات البابا بالكاثوليك المحافظين، والعلاقات بالكنائس المسيحية الأُخرى. والمعروف أنه في كلّ هذه المسائل ما وصل البابا إلى حلول، بل أشعل نزاعاتٍ جديدة. ومن الذين أشعل معهم نزاعاتٍ خارج الحظيرة المسيحية: اليهود والمسلمون. أما اليهود فلأنه عاد لاستيعاب مطارنة محافظين ينكرون المحرقة أي أنهم ضد اليهود كما هو الموقف المسيحي الأصلي. وقد تحدث البابا عن جهوده لإصلاح المسائل مع اليهود. وما وجدتُ ما قاله عن العلاقات مع الأرثوذكس والبروتستانت واليهود مُرْضياً. لكنّ الذي يُهمُّني هنا ما قاله إجابةً على ثلاثة أسئلة عن الإسلام. فقد سأله الصحفي سيفالد عمّا حصل بعد محاضرته في جامعة رغنسبورغ في نوفمبر 2006. واعتذر البابا بأنّ المناسبة كانت أكاديميةً بحتةً، وقد استشهد فيها بعبارتين للإمبراطور البيزنطي إيمانويل الثاني (أواخر القرن 14م) والذي كان حليفاً للسلطان العثماني، لكنه وفي جدالٍ مع "مثقف فارسي مسلم" خاطبه فجأةً بعنفٍ: "لو تأملنا ما جاء به محمد، لما وجدنا غير السيئ والسلبي: فهل هناك أسوأ من استخدام العنف في الاستجلاب إلى الإسلام؟ الإيمان صناعة القلب والعقل، والعنف يُعادي طبيعة الله المُحبة والعاقلة"! ويتابع البابا أنّ ثوراناً عنيفاً وقع بعد هذه المحاضرة، لكنه استطاع القيام باستيعاب أولي لردود الفعل في زيارته لتركيا. وهكذا فالبابا مطمئنٌّ الآن للعودة إلى الحوار والتشاور مع المسلمين، لكنْ (وهذا ما يختم به حديثه عن الإسلام) على المسلمين أنفسهم أن يواجهوا تحدّيي العقل والإيمان، العنف والعلاقة مع الآخر. وأضاف البابا إلى الموضوع ملاحظةً أخيرة تتصل بعدم قبول المسلمين للارتداد عن الإسلام، والمفهوم أنّ هذا الموضوع أيضاً هو تحدٍ يُواجهُ المسلمين في قبولهم للحرية الدينية أو حرية تغيير المعتقد وبالاتجاهين! نُشر الكتاب قبل قتل المسيحيين بالعراق أوائل نوفمبر. وبغضّ النظر عن رأينا في تقديرات البابا للموقف؛ فالواقع أنّ تحدّي العنف هو تحدٍ حقيقي. أمّا الأمران الآخران (الإيمان والعقل، وتغيير المعتقد) فهما مُهمّان، لكنهما محوطان بسوء الفهم من جانب البابا وكثيرين آخرين. فهو في محاضرته الشهيرة وعندما أراد الاستشهاد على عدم استحلال الاحتجاج بالعقل على وجود الله لدى المسلمين، ما وجد غير ابن حزم الأندلسي. وكلُّ المذاهب الكلامية الإسلامية هي أبنيةٌ عقليةٌ للاستدلال بالعقل على الوجود الإلهي، وضرورة قيام الإيمان على الاقتناع العقلي؛ باستثناء ما يقوله بعض الصوفية، وهو أمرٌ معروفٌ لدى المسيحيين أيضاً. أما ترك الإسلام ابتداءً أو الدخول إليه ثم الخروج منه، فقد دارت حوله نقاشاتٌ عنيفةٌ منذ القِدَم، وإذا كان الإيمان اقتناعاً قلبياً، فكيف يمكن الإجبارُ عليه؟ وهكذا فالذي أراه أنّ النقاش في هذا الموضوع سائرٌ إلى نهايةٍ، وأكثره دعاياتٌ تستفيد من بعض التصريحات غير المسؤولة. والاتهامات في هذا الشأن متبادَلة، ولستُ أدري إن كان الذين يدخلون الإسلام أكثر ممن يغادرونه أم العكس. أما إكراه بعض النساء للبقاء على الاستقامة الدينية؛ فيتصل بأعراف الشرف أكثر مما يتصل بالدين. أما سؤال العنف فلا تجوزُ الغمغمةُ فيه. إذ إنّ له تاريخاً طويلاً يعود لسبعينيات القرن الماضي عندما بدأ استخدام العنف باسم الدين من جانب الحركيين الإسلاميين. وقد خدعنا أنفسنا طويلاً حتى انكشفنا وما عادت بأيدينا حجة من أيِّ نوع. قلنا أولاً إنه لا ينبغي أخذ الخطاب على ظاهره، بل إنّ الدين مستخدمٌ فيه لأسبابٍ سياسية. وسمَّينا جماعات العنف بالفعل أولاً: جماعات الإسلام السياسي. وعندما ذهبوا إلى أفغانستان بموافقتنا لمقاتلة الروس الغُزاة سميناهم مُجاهدين، لكنّ الروسَ ذهبوا، وبقوا هم يقاتلون بعضهم بعضاً، ثم ها هم يقاتلون العالم كلَّه. وقد دخلوا إلى كنائس بالعراق واحتجزوا مسيحيين فيها، لاشتباههم في أنّ الكنيسة القبطية بمصر احتجزت امرأةً لمنعها من البقاء على الإسلام الذي دخلته! وبعد التعذير بأنّ ذلك سياسة، والاعتذار الآخر بأنّ الآخرين يمارسون العنف ضد المسلمين، وعندما وصل العنف إلى ذقوننا بحجة أنّ حكوماتنا غير شرعية أو بدون حُجّة، وقفنا عاجزين نُصدر فتاوى عاجزة، ونتهم الفئات الضالّة والأُخرى المتآمرة. ما ذهب أحدٌ بالطبع إلى إحلال الدم هكذا علناً. لكنّ الضياع الذي أصاب تجاربنا السياسية، والعنف الذي يُمارَسُ علينا من الخارج والداخل، أطلق شراراتٍ غاضبةً كلّها باسم الإسلام. والدليل على استسهال العنف، أنّ "القاعدة" ما تزال تستطيع بعد كلِّ هذه السنوات تجنيد شبانٍ في صفوفها، وما عادت لدى هؤلاء أية أحاسيس تتعلق بالحلال والحرام، وإنما هم عدميون يعملون فيما وراء الخير والشر، هدفُهُم الإرعاب الذي ما عادوا يستطيعون غيره. لندع هذه العصابة مؤقتاً، ولنلتفت إلى التحدي الذي يواجهنا، وهؤلاء بالطبع جزءٌ منه. نحن أمةٌ ضخمةٌ يبلغ تعدادها حوالي المليار ونصف المليار. ولدينا سبعٌ وخمسون دولة، لا يتّسم أكثرها بالنجاح في التنمية والديمقراطية أو العلاقة المعقولة بالجوار والعالم. وبسبب ظروفنا الداخلية والخارجية في النصف الثاني من القرن العشرين، ظهرت لدينا الصحوة الدينيةُ الإسلامية، التي رمت للدخول في حلّ المشاكل عبر إضفاء مظاهر الأسلمة على المجتمع والدولة. ولم تكف هذه الخصوصية الجديدة الشباب فانصرفوا إلى العنف ضدّ الآخرين، ثم ضدّ الذين حاولوا منعهم من ذلك، ثم ضدّ أنفُسهم. وقد كنا نفتخر على مدى الأزمنة الحديثة، نحن أهل السنة بالذات، بأنه ليست لدينا سلطة دينية، والفتوى عندنا لا تستلزم التقليد. فلمّا استشرى العنف، بدأْنا نلوم المشايخ على أنهم ما كانوا متشددين كفايةً ضد هؤلاء. لكنْ بغياب السلطة الدينية المركزية، ليس بالوسع أن يمونَ أحدٌ على أحد، ولكلٍّ شيخه ومفتيه، وها هو بن لادن يشنُّ حربه على العالم كُلّه دونما حاجةً إلى فتوى من أحد! وهكذا فإنّ العنف الذي يستشري في صفوفنا، يشرذمنا، ويُسيئُ لعلاقاتنا بالعالم، لا يمكن الصبر عليه. والفتاوى مهما بلغت قوتها لن تحد منه أو تنهيه. لذا لابُدَّ من إجراءاتٍ عاجلة، وأُخرى آجلة، ولا نستطيع الانتظار إلى أن تنصلح الأحوال السياسية والمعيشية والشوروية. وأول الإجراءات العاجلة، عقد مؤتمرٍ إسلاميٍّ للعلماء، وليكن موضوعه: الإسلام والعنف، وتحريم استخدام العنف بالداخل، وضد المدنيين مهما كانت الأسباب. وليكن بعد ذلك برنامج "المناصحة" أو إعادة التربية الذي تتبعه السعودية شاملاً في سائر الدول الإسلامية. ثم ليجر التواصُل مع المقامات الدينية في العالم على أساسٍ من نهج المسالمة هذه: "لئن مددت يدك إلىّ لتقتلني ما أنا بباسطٍ يدي إليك لأقتلك، إني أخاف الله ربَّ العالمين". أما الإجراءات الآجلة أو الطويلة الأمد فتتعلق بإعادة بناء مؤسساتنا الدينية، وإعادة النظر في وظائفها التربوية. البابا مُحِقٌّ في أنّ سؤال العنف يتعلقُ بنا وبطريقتنا في مواجهته أولاً. وهي مسؤوليةٌ ضخمةٌ، لأنّ الإسلام صار بسبب العنف بالذات مشكلةً عالمية.