قال صديقي إن فلاناً امتهن الفساد، فسادَ أي أصبح سيداً في موقعه، وربما في قومه..!! ثم قال لي ما تفسيرك للفساد.؟ استغربت السؤال ولكنني قلت له يا صديقي هو إما فساد في الدين، أو فساد في المروءة، أو فساد في المال، أو فساد في العمل، أو فساد في الأمانة، أو فساد في الأرض، كما تفعل أمريكا وإسرائيل. ضحك صديقي وقال هذا تفسير تقليدي للفساد.. قلت وهو كذلك فلا يوجد فساد كلاسيكي وفساد حديث فالفساد واحد منذ بداية الخليقة، قال: نعم ولكن هناك فساد له لون وشكل آخر، وهو الذي يأخذ شكل الإصلاح والصلاح.. فهناك فساد واضح وصريح وظاهر للعيان، وهناك فساد خفي مارسه أناس متقنعون متفقهون في هذه الممارسة يظهرون أشد أنواع الحماسة لمحاربته وراء مصطلح الاصلاح، فهناك فساد مبطن، ومغلف بالاصلاح يخلب لب الناظرين، ويصدقه العامة أو الرعاع أو أولئك البسطاء الذين تنطلي عليهم مثل هذه الألاعيب فأنا أعرف أناساً يمارسون الورع والتقوى الإدارية والمالية، والأخلاقية، يصلّون، ويستغفرون، ويظهرون الزهد في الدنيا والإخلاص في العمل، وهم في الواقع ينسجون خيوطاً دقيقة وخفية ضمن بطانة معينة لهم لغتهم الخاص، ولهجتهم الخاصة، وحيلهم الخاصة، ودهاليزهم الخاصة، ولكنهم يحمون أنفسهم بطرق نظامية لها أسلوبها ودهاليزها وسراديبها وأنفاقها التي لا يراها أحد، ولا يستطيع أحد أن يكشفها أو أن يثبتها عليهم لأنهم قد تمرسوا وتترسوا بتلك القوانين أو الذرائع والمكر الخفي في الصنع، فيصعب كشفهم، ويصعب العثور على أطراف خيوط لعبتهم. فقلت هذا شيء يشبه الأحجية أو اللغز.. قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع فهم ما أرمي إليه، وإنك تحتاج إلى جرعات من الفطنة، ليس لسذاجتك ولكن لبعدك عن مجال اللعبة، فهؤلاء أقرب وأشبه بالحواة والمشعوذين حين يقفون أمام الناس فيخرِجون من قبعاتهم، عصافير تطير، وثعابين تتحرك، وفواكه وزهوراً، فيصفق لهم الناس، فيما هم في الواقع يمارسون حيلاً بالغة في المهارة والدقة والشعوذة. احترت في الرد عليه، وضاق صدري من أسلوبه في تفسير ما يرمي إليه، فقلت له: دعني من هذا فأنا لا أصدق إلا ما أرى وأسمع، أما التكهنات والألغاز فهي ضرب من ضروب الوهم وقلة الدراية والإلمام بالواقع.. قال: هذا شأنك، وأنت حر فيما تعتقد ما دام أنك لن تصدق حتى يظهر أولئك لك وللناس جهرة..!! صمتنا برهة ثم قال هل تعرف فلاناً؟ قلت: نعم أعرفه، قال: ما رأيك فيه؟ قلت: لا أقول فيه إلا خيراً.. قال: هل كان غنياً أو وارثاً أو اكتشف كنزاً حتى أصبح بهذا الثراء والغنى الباذخ، وهو لا يملك إلا راتبه؟ قلت «أنا لست عليه بوكيل ولا أعلم أسرار غناه، ولا أسرار ثروته، قال: أقول لك بكل بساطة تشبه بساطتك وسذاجتك، هذا أظهر الصلاح حتى انخدع به الكثيرون من أمثالك، ولكن ما جعله اليوم ثرياً وجعله نابهاً أنه مارس تلك اللعبة الخفية ونجح، ونسج خيوط سجادة صلاة المكر والاختلاس وارتفع وعلا شأنه، لأنه خادع بارع، أي أنه أظهر الصلاح والصدق والورع، ولكنه في الواقع كان يمارس أقبح أنواع الفساد.. حتى تمكّنَ فسادَ..!!