محمد المهنا أبا الخيل - الجزيرة السعودية عندما كنت طالباً في اليابان، في منتصف السبعينات، ذهبت إلى متجر (ماروي) المشهور لأشتري معطفاً يقيني برد الشتاء، وفي الطابق الذي تباع فيه ملابس الرجال، رأيت أحد الباعة، فذهبت إليه لعله يهديني للخيار الأفضل، وكان يحاور أحد زبائن المتجر، فبادرته بأني أريد معطفاً جيداً وضمن ميزانيتي، فنظر لي لحظة باستغراب مفاجئ، ثم وجه الكلام للزبون الآخر وهو يقول «أعتذر لك لحظة»، ثم عاد لي وبابتسامة لا تخلو من تعجب وقال «أرجوك انتظر لحظة فأنا مشغول مع هذا السيد» وعاد يحاور الآخر، لم يرق لي تصرفه هذا، فأنا أيضا زبون ويجب أن يجيب على تساؤلي، ولكن قبلت على مضض أن أنتظر لحظة، وعندما طال حديثه مع الزبون الآخر، تركته أبحث عن بائع آخر أكثر رغبة في مساعدتي، وأنا أدور بين الملابس المعلقة وإذا بنفس البائع يلحقني ويعتذر بشدة عن انشغاله بالزبون الآخر فقلت «كان بإمكانك أن ترشدني وتكمل حديثك مع الزبون الآخر» فقال «أكرر لك العذر، ولكن لو تركت ذلك الزبون ولبيت طلبك لغضب من امتهاني له، فهو لا يزال بحاجة للخدمة « فقلت « ولكن طلبي وجيز ويمكنه الانتظار لحظة « فقال وهو مبتسم « وهو يظن أن طلبه وجيز وبإمكانك الانتظار لحظة. والحق معه فقد كان قبلك في طلب الخدمة ولو كنت مكانه وتركتك لأخدمه لغضبت، إننا نحاول إرضاء جميع العملاء وضمن الأولوية وتمام الخدمة» طبعاً لم يقنعني كلامه إذ ذاك، والسبب أن هناك ثقافة متأصلة في وجداني هي (ثقافة وخر). «وخر» هي كلمة دارجة في مجتمع المملكة والخليج بصورة عامة وتعني « ابتعد أو تنحى جانباً « وأصلها تحوير لكلمة «تِأخر أو كن في الأخير « وهي عبارة في كلمة تحمل مضموناً فوقياً وسيادياً، فهي تستخدم في صيغة أمر لتنحية المأمور عن موقع لعدم أهليته، لذا نجدها تستخدم في الغالب الأعم بصورة تنم عن عدم الرضا، وقد بني على هذه الكلمة التعبيرية ثقافة تقوم على عدة مفاهيم منها، أن مستخدم العبارة يتقمص حين يريد التعبير بها مرجعية في تحديد الأهلية، ثم هو أيضا يقيس ويحكم بعدم الأهلية، وفي كل ذلك يتيح لنفسه سلطة الأمر بالتنحية. هذه المفاهيم مترابطة فيما بينها وتؤلف هذه الثقافة، والتي تستقر في الوجدان وتمارس اعتماداً عليها كثير من السلوكيات بصورة آلية بحيث لا يسبقها تقييم للموقف واستيعاب للحقوق وإدراك للمشاعر. كثير من الناس يتصرف بوحي من تلك الثقافة ولا يعي أنه يصادر حقوق الآخرين ويتعدى على مشاعرهم، ولا يدرك آن أنانيته قد بلغت مبلغاً بحيث بات امتهان الناس في سبيل الذات أمرا لا يستحق التفكير بل أنه يستغرب عند الاعتراض على ذلك. هناك تصرفات يتجلى ارتباطها ب»ثقافة وخر» مثل السائق الأرعن الذي يصر على إخراج الآخرين من مساراتهم، وذلك الذي يتخطى الناس في طوابير انتظار الخدمة، والآخر الذي يتخطى رقاب الناس في صلاة الجمعة ليكون قرب المكيف، ولكن هناك تصرفات أخرى مستحثة بتلك الثقافة، مثل الذي يستشفع ذوي السلطة في الحصول على أولوية في الخدمات أو المراكز دون النظر لما ينظم ذلك، ومثل الذي يقاطع حديث الآخر لمجرد أنه لا يروق له، وذلك الذي يتدخل في معاملة ليغير مسارها لمجرد أنه صاحب سلطة، أو من يتحدى الآخرين في معاشهم بناء على موقف شخصي أو من يحتقر الآخر لتواضع معيشته أو مركزه أو مكتسباته. (ثقافة وخر) لا تسود في مجتمع لديه قيم سامية مؤسسة على احترام الإنسان، مجتمع واعٍ لحقيقة العدالة، فالعدالة تبدأ من إحساس الفرد بقيمته كإنسان وتمثل ذلك الشعور لدى الآخر، والعدالة لا تسود إلا لدى مجتمع ترقى الفكر الناقد في ذهنيته، فبات أهم الممارسات، فمن لا يمارس الفكر الناقد ويتبصر فيما حوله ودوره كإنسان، لن يكون إنساناً متطوراً ولو منح مئات شهادات الدكتورة، فالمشاهد يرى كل يوم من ذوي أصحاب الشهادات العليا والمراتب الكبرى من تأصلت لديه (ثقافة وخر) فإلى متى تأسرنا هذه الثقافة؟.