د. حمزة قبلان المزيني *نقلا عن "الوطن" السعودية أتى التوجيه الملكي الذي أصدره خادم الحرمين الشريفين، الملك عبد الله بن عبد العزيز، (2/9/1431ه) القاضي بردّ الاعتبار للهيئات الرسمية الدينية من حيث اختصاصها بالفتوى والإرشاد والاحتساب استكمالا لسلسلة الإصلاحات التي أصدرها - حفظه الله - من قبل لبعض المؤسسات الدينية الرسمية الرئيسة. ومنها أنظمة القضاء وإعادة تكوين هيئة كبار العلماء. وأشار التوجيه الملكي- بلغة حازمة - إلى مدى الفوضى التي ضربت المجال الديني وكان من نتائجها الافتئات على المؤسسات الدينية الرسمية خلال السنوات الماضية حتى كادت تتوارى أمام وهج المتطفلين على اختصاصاتها، لذلك جاء هذا التوجيه الملكي لرد الأمور إلى نصابها حتى لا يقع المسلمون ضحايا للنشاطات المفتئتة التي تتمثل في عدم التقيّد بمنهجية واضحة تحدّ من الفوضى العارمة في الإفتاء والوعظ والاحتساب التي يشهدها كل ملاحظ. وتعود هذه الفوضى في الإفتاء والفتوى والاحتساب لأسباب متعددة؛ يعود بعضها إلى طبيعة العلوم الإنسانية التي تنتمي إليها الدراسات الدينية، وهي علوم لا تزال بعيدة عن الانضباط الذي تتصف به العلوم الدقيقة كالفيزياء والكيمياء والأحياء. وتعود بعض الأسباب الأخرى إلى المؤسسات الدينية الرسمية نفسها التي أسهمت في تشجيع بعض من ينتمي إليها، وبعض من لا ينتمي إليها، على تجاوزها والقيام بدورها الذي يجب أن تقوم به وحدها أو تحت إشرافها المباشر. وليس هذا الافتئات جديدا في تاريخ المؤسسات الدينية الرسمية في المملكة، وهو ما حمَل ولاة الأمر، مرات عدة، على إصدار تنظيمات صارمة للحد من تطاول المفتئتين على وظيفة هذه المؤسسات. وسوف أحاول في هذا المقال ومقالات تالية مناقشة هذه الأسباب الثلاثة لعلنا نجد طريقا يمكن التوفيق فيه بين حرية البحث والرأي من جهة والالتزامِ بوحدة المرجعية في أمور دينية لها علاقة بالشأن العام أو سياسة الدولة عموما من جهة ثانية. أما من حيث السبب الأول فمن الملاحظ أن العلوم الاجتماعية والإنسانية عموما - التي تنتمي لها الدراسات الدينية - تقع دائما ضحية المفتئتين عليها بدوافع مختلفة. ومن هنا يعم الاضطراب هذه العلوم، وهو ما يدخِل الحيرةَ على المتابع لها حتى إنه يتعذر عليه في غالب الأحوال التحققُ من مدى التقدم الذي تنجزه. ويمكن أن يقارن هذا الاضطراب في هذه العلوم بالانضباط الذي تتميز به العلوم الدقيقة. فقد وصلت هذه العلوم إلى حدود قصوى من النضج يمكن معها اكتشاف الشذوذ عن السائغ علميا فيها من غير عناء، ومعالجته بسرعة. ويمكن التمثيل على جديَّة هذا الانضباط بحادثة وقعت في الأسبوعين الماضيين في جامعة هارفارد الأمريكية الشهيرة. وتتعلق هذه الحادثة بواحد من أبرز الباحثين من أعضاء التدريس فيها في مجال علوم الأحياء تميَّز بأبحاثه الرائدة في مجال الأسس الأحيائية ل"الإدراك والأخلاقيات". وهو يعد رائدا في هذا المجال، ويشهد بذلك كتابه الذي أصدره في 2006م بعنوان "العقول الأخلاقية: كيف صاغت الطبيعةُ حِسَّنا الكُلِّيّ بالخطأ والصواب" الذي استقبله المتخصصون بترحاب بالغ. وشارك في إنجاز بعض الدراسات المهمة في هذا المجال مع باحثين مشهورين مثل اللساني الأمريكي المعروف نعوم تشومسكي الذي أنجز معه دراستين مشهورتين عن نشأة القدرة اللغوية وتطوُّرها الأحيائي عند الإنسان نشرتا في 2002 و 2005م. ذلك هو الدكتور مارك هاوسر Marc Hauser. وقد ذاع أمر هذه الحادثة بين المتخصصين واهتمت وسائل الإعلام الأمريكية به أيما اهتمام فنشرت عنه تقارير مطولة. ومن ذلك التقاريرُ المتتابعة التي نشرتها صحيفة نيويورك تايمز، ومنها تقريرها الأخير الذي نشرته في موقعها على الإنترنت عن هذه الحادثة بعنوان "هارفارد تَجِد (أحد علمائها) مذنِبا بعدم التصرف اللائق" (20/8/2010م). ووصف التقرير هاوسر بأنه "نجم بازغ" بسبب دراساته اللافتة للنظر في مجاله. لكن الإنجازات المهمة التي أنجزها والمكانة البارزة التي تبوأها نتيجة لذلك لم تشفع له حين وقع في بعض المشكلات العلمية التي تتعلق، كما يقول مايكل سميث - عميد كلية الآداب والعلوم في جامعة هارفارد في رسالته التي وجهها لأعضاء هيئة التدريس في الكلية - بثماني حالات من التصرف العلمي غير اللائق من حيث: "جمع المادة، وتحليلها، والاحتفاظ بها، ومن حيث كلامه عن منهجيات البحث، والنتائج" الخاصة بالأبحاث التي أجراها. واعترف الدكتور هاوسر لمراسل الصحيفة بأنه "ارتكب بعض الأخطاء المهمة، وأنه يأسف بعمق لتسببه في المشكلات التي نشأت عن هذه الحادثة لطلابه وزملائه وجامعته". وصرح المسؤولون في الجامعة بأنه هو "المسؤول الوحيد" عن ارتكاب هذه الحالات الثماني للتصرف العلمي غير اللائق. ومع أن هذا الباحث البارز صحّح ثلاثا من المشكلات الثماني إلا أن عواقب هذه الفضيحة المدوية كانت شديدة عليه وعلى مستقبله، فهو سيُرغم على الغياب غير الاختياري عن الجامعة، والخضوع لمزيد من الإشراف على أبحاثه، والحد من قدرته على طلب التمويل لأبحاثه والحد من الإشراف على طلابه. بل ربما تتعدّى هذه العواقب الباحث نفسه لتلقي ظلالا من الشك على المجال الأوسع للبحث العلمي الذي يعتمد على تقنيات بحثية معينة استخدمت في الغالب في التجارب التي أجراها. وربّما يتعرض الدكتور هاوسر لمزيد من التحقيقات التي ستقوم بها الجهات الأمنية والقضائية والعلمية في ولاية ماساتشوستس التي تقع فيها هارفارد، كما تقول الصحيفة. هذا مثال لما يمكن أن يحدث حين يرتكب باحث في العلوم الدقيقة ما يمكن أن يعد خروجا على أخلاقيات البحث وأصوله. وهناك أمثلة أخرى كثيرة مماثلة. وهذا الانضباط هو ما يجعل هذه العلوم تتقدم باستمرار نتيجة للتمييز الصارم بين الإسهامات المهمّة التي تؤدي إلى تقدّمها، والخروجِ على قيم البحث العلمي الذي يؤدي إلى نتائج تدخل في باب الشذوذ والشعوذة. وجاءت الإجراءات السريعة الحاسمة التي اتخذتها جامعة هارفارد من أجل حماية علوم الأحياء من الاضطراب الذي ربما يدخل عليها بسبب الأخطاء العلمية المقصودة أو غير المقصودة، كما جاءت تلك الإجراءات لحماية سمعة هذه الجامعة العريقة من أن تكون ضحية لتلك الأخطاء. لقد اختارت الجامعة أن تضحي بواحد من ألمع علمائها من أجل حفظ كرامة العلم وحفظ كرامتها هي بوصفها مؤسسة علمية رائدة تبعا لذلك. ويمكن المقارنة - مع الفارق - بين الإجراءات التي اتخذتها جامعة هارفارد لحماية سمعتها وسمعة علوم الأحياء بالتوجيه الملكي الذي جاء لحماية المؤسسات الدينية الرسمية من الافتئات وحماية المسلمين من الوقوع ضحايا للمتطفلين الذين أغرقوا بلادنا خلال الثلاثين سنة الماضية بالأنشطة الوعظية والاحتسابية والافتئاتية التي نشأ عنها كثير من المشكلات التي أساءت إلى سمعة الإسلام وإلى سمعة بلادنا. ومن هنا جاءت أهمية هذا التوجيه الإصلاحي الذي سيحد حتما من سطوة أولئك المتطفلين.