بدأ المسلسل المثير بإنشاء قناة «الحرة» الأمريكية عام 2004، وقبيلها قناة «العالم» الإيرانية.. فتبعتهما فرنسا بقناة «فرانس24»، لتلحقها منافستها ألمانيا بقناة «دويتش فيليه DW» أي صوت ألمانيا.. ثم روسيا بقناة ..... .....«روسيا اليوم RT» عام 2007.. لا بد أن تلحقهم بريطانيا لتسبقهم، فأنشأت قناة «بي بي سي».. واكتمل عقد الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن بانضمام الصين عام 2009 بقناة «CCTV».. وكأنه لا بد أن ينسجم الحفل بحضور تركيا التي بدأت بثها قبل أشهر ثلاثة بقناتها «تي آر تي».. وخلال تلك الأعوام القليلة تفرخت عدة قنوات أجنبية أخرى ناطقة بالعربية أقل أهمية.. فما أجمل المشهد لأصحاب نظرية المؤامرة! لا يحتاج المرء أن يتأثر بنظرية المؤامرة كي يقتنع بأن لهذه القنوات رسالة تتضمن تلميع صورة بلدانها، وبالتالي هي قنوات موجهة حكومياً بشكل مباشر أو غير مباشر. وليس في ذلك ما يعيب، فهو جزء من التثاقف العالمي في زمن العولمة، إنما الخلاف على درجة التوجيه الحكومي والتركيز السياسي. فإذا كانت أمريكا والصين مثلاً تركزان على الرسالة من منظور سياسي فإن الرؤية الأوربية تختلف، كما أوضحت ناهدة نكد المشرفة على القناة الفرنسية «أن فرنسا يسودها مفهوم أن الثقافة لها أيضاً أهمية كبيرة مثل السياسة والاقتصاد.. والرؤية الفرنسية لا تتبع أي مشروع سياسي بعينه..». فما هو مقدار نجاح وشعبية تلك القنوات؟ قبيل ظهور قناة «الحرة» كانت الآراء متفاوتة، إذ توقع البعض أنها ستفشل حتماً، لأن هدفها تبرير احتلال أمريكا للعراق وتحسين صورتها المنحازة لإسرائيل، بينما توقع بعض آخر أنها ستشكل نقلة نوعية ستهدد مكانة قناة الجزيرة ومن بعدها قناة العربية، لأنها ستمارس شفافية أكبر منهما. أما أكثر القنوات إثارة للجدل والتي توقع البعض (وأنا منهم وكتبت في ذلك) بأنها قد تسحب البساط من كافة القنوات الإخبارية، فهي هيئة الإذاعة البريطانية ذات الاسم المجلجل والتاريخ المشهود مع المواطن العربي الذي يربو على سبعين عاما، وكانت في بعض الفترات الحرجة هي الأكثر مهنية ومصداقية بالنسبة لغالبية العرب. إضافة إلى أن كثيراً من الكفاءات التي أدارت أغلب القنوات الفضائية الناجحة، هم من خرِّيجي مدرسة بي بي سي العريقة. إنما كافة الملاحظات والدلائل العامة تشير إلى عدم شعبية تلك القنوات. ورغم عدم وجود إحصاءات دقيقة، فإن المؤشرات الإحصائية القليلة تؤكد ما نلاحظه من فشل هذه القنوات في جذب الجمهور العربي. ففي استطلاع للرأي قام به مركز جالوب الأمريكي عام 2007 أوضح أن 30% من السعوديين يشاهدون قناة «الجزيرة» بينما لا يشاهد قناة «الحرة» سوى 2% فقط. ومشابه لذلك ما أجرته شركة الزغبي العالمية وجامعة ميريلاند، عام 2009 بأن 55% من المصريين الذين شاركوا في الاستفتاء يفضلون قناة «الجزيرة» (موقع annabaa). يجمل الناقد التلفزيوني توفيق رباحي المشهد: «ما زالت قناة «الحرة» غائبة عن الوجود، فبالكاد نتذكرها (بينما تعرف القنوات التلفزية الأمريكية، بكل أنواعها وعلى كثرتها، نجاحا منقطع النظير).. ما زال تلفزيون «بي بي سي» العربي يصارع من أجل الوصول إلى مرتبة تليق بعراقة وإرث «بي بي سي» الأم الموغلة في التاريخ والاحترافية (بينما حقق تلفزيون «بي بي سي» بالإنكليزية مستوى مذهلا من النجاح والحرفية).. ما زالت «فرانس 24» العربية تعاني في البحث عن هوية ومكانة تحت سماء الفضائيات الدولية (بينما يتحسن أداء «فرانس 24» بالفرنسية والإنكليزية).. ما زالت قناة «روسيا اليوم» الفضائية تتخبط بحثا عن مشاهدين (بينما يبدو مستوى «روسيا اليوم» بالإنكليزية مقبولا..).» ويرى مارك لينش (مدير معهد دراسات الشرق الأوسط بجامعة جورج واشنطن) ومؤلف كتاب «أصوات من الجمهور العربي الجديد»، أنه من غير المحتمل أن أي من تلك القنوات يمكنها التقاط حصتها من السوق الإعلامي أو تشكيل الرأي العام العربي. وذلك ما دعا عدداً من المشرعين في واشنطن للمطالبة بإلغاء قناة الحرة لأنها تكبل دافع الضرائب الأمريكي دون جدوى! فما هي أسباب الفشل؟ إذا بدأنا من الناحية الكمية نجد كثرة القنوات العربية (حاليا نحو 750 قناة)، جعلت القنوات الأجنبية تغرق في بحرها.. ويتندر الإعلامي المشهور فيصل القاسم بهذه القنوات قائلاً: «كم أضحكني أحد العاملين في إحداها عندما وصف قناته بأنها «قناة سرية»، على اعتبار أنها ضائعة بين مئات القنوات، ولا أحد يعرف مكانها». ويبدو أن تركز هذه القنوات على الناحية الإخبارية كان له تأثير سلبي، بسبب عدم جاذبية القنوات الإخبارية لدى المشاهد العربي مقارنة بالقنوات الأخرى. فقد أظهرت إحصائيات اتحاد إذاعات الدول العربية (2009) أن القنوات الإخبارية هي الأقل حظا عند الجمهور العربي إذ بلغ عددها 34 قناة (بنسبة 7%)، بينما حازت القنوات المتعلقة بالموسيقى والمنوعات على النصيب الأعلى بنسبة 23% فيما قنوات الدراما والمسلسلات والثقافة العامة نالت نحو 15% والقنوات الرياضية 11%. وفي تقديري أن أكثر الأسباب وجاهة هو ثورة الاتصالات وتفجر المعلومات (الإنترنت) التي لم تترك خفايا تستطيع من خلالها القنوات الأجنبية أن تفاجئ الجمهور العربي بها، ومن ثم لم يعد متلهفاً لأخبار تأتيه من الخارج. إضافة إلى أن هذه القنوات تجامل الأنظمة العربية لكي لا تمنع مراسليها من التواجد في أراضيها أو تقوم بحجبها إن هي فتحت ملفات مزعجة، بل إنها تأخذ موافقة الأنظمة على تحديد أسماء مراسليها، حتى أن البعض يشير إلى أن هناك قوائم سوداء لبعض الأسماء تُمنع من المشاركة بالحوارات، تفادياً لغضب بعض الأنظمة! هذا جعل البعض يتهم تلك القنوات بالنفاق! فلماذا تزداد هذه القنوات عدداً إذا كانت فاشلة (ربما نستثني بي بي سي)؟ يبدو أن الدول لا يمكنها الغياب عن الحفل الفضائي العربي طالما أن دولاً منافسة أخرى حضرت، لتصبح المسألة ليس أن تربح بل أن لا تخسر. فأساساً تمثل تلك القنوات مشاريع حكومية غير ربحية تعتمد على الرؤية السياسية وليست الاقتصادية. ففي بيئة الإنتاج الإعلامي غالباً لا يحصل انسجام بين القرار الحكومي (البيروقراطي) وانجذاب الجمهور، طالما أن الأول ينصب تركيزه على بث رسالته أكثر من طريقة هذا البث.