قضينا مراهقتنا وشبابنا نتابعه في التلفزيون بمتعة بالغة واستفادة رائعة.. وخاصة بعد الافطار في رمضان.. كان - رحمه الله - سمحاً مرحاً عالماً واسع الآفاق. قرأ مرة رسالة مستمعة تقول انها تريد ان تلبس لزوجها (البنطلون) وهما وحيدان ولكنها سألت شيخاً بالهاتف فقال: لا يجوز.. ضحك الشيخ الطنطاوي ضحكته الصغيرة الجميلة ثم قال: (إذن اخليعه.. إذا كان يجوز ان تخليعه أمامه كيف لا يجوز ان تلبسيه أمامه؟! شو هاالحكي!!). لقد كان - رحمه الله تعالى ورحم جميع أموات المسلمين ورحمنا وإياكم أحياءً وأمواتاً - كان أستاذًا لنا عن بعد، فهو واسع الثقافة، خفيف الظل، جميل الطلة، حسن الصوت، مرتب الهندام، حلو الكلام. وكان كثيراً ما يخرج عن الموضوع ويستطرد ثم يقف بعد ان زادنا متعة بخروجه عن الموضوع، ثم يقول «شو جابنا لها الحكي؟!!».. ويرجع يتذكر الموضوع الأصلي الذي كان يتحدث فيه وهو يصلح (غترته) ويجمع شمل ذاكرته. لم نحس يوماً أنه كان يأمرنا وينهانا.. يزجرنا ويوبخنا.. بل لم نحس أنه كان يعظنا.. بل كان يتحدث مع المشاهد حديث الصديق للصديق.. بأسلوب سهل.. وبود عميق. أذكر أنه قرأ رسالة زوج يشكو من كثرة (زعل) زوجته التي يحبها، فقال الشيخ: «ايه.. خذ لها باقة أو طاقة ورد» ثم تبسم ضاحكاً وقال: (طاقة ورد موش قماش)! وأضاف: الورد الملموم يسمى باقة أو طاقة!.. وقال للسائل: المرأة طيبة يرضيها حلو الكلام والهدايا الصغيرة والاهتمام. وكان مع تبحره في علوم الشريعة، بحراً في علوم اللغة العربية: النحو والصرف والتعريب والبلاغة وفقه اللغة.. وملماً بالآداب والفنون بما فيها الموسيقى ومقاماتها.. والأشعار والأمثال.. كان موسوعة بحق.. موسوعة على طبق من ذهب.. يقدّم لك المعلومات بأسلوب ممتع سهل ممتنع. أستاذنا في النقد الأدبي بكلية اللغة العربية المرحوم الدكتور عبدالرحمن رأفت الباشا.. قال لنا أكثر من مرة: إنني تلميذ للشيخ علي الطنطاوي حتى الآن وعمري فوق الستين .. مع العلم ان (الباشا) كان معتداً بنفسه بقوة - رحمه الله - ورغم ذلك يعترف جهاراً أمامنا - أكثر من ثمانين طالباً إذ كان يجمع طلبة السنة النهائية 1393ه في صالة واحدة - أنه كان ولا يزال تلميذاً أمام الشيخ الطنطاوي ويدين له بالفضل، وكان الباشا مثله في كثرة الخروج عن الموضوع ورواية تجاربه الشخصية الممتعة بأسلوبه الأخاذ، وكنا نفرح إذا خرج عن الموضوع، نظفر بجديد، ونستفيد حكمة، ونعيش تجربة، ونتذوق متعة.. أما المقرر فهو موجود في الكتب.. ولكن تجارب الرجال رائعة حين تقال مشافهة وبرواية صادقة وكلمات نابضة.. استفدنا من خروج الباشا عن الموضوع أكثر من دروسه عن النقد الأدبي.. لأنه كان يتحدث عن تجاربه بصراحة وبلاغة، وكان - رحمه الله - كثير التجارب والأسفار.. أحس بحنين عظيم حين أسمع أصوات أساتذتنا في إذاعة القرآن الكريم أو إذاعة الرياض.. فلا زالت تعاد - بين الحين والحين - برامج وأحاديث لبعض أساتذتنا الكبار أمثال الشيخ الدكتور (محمد الراوي) الذي كان يدرسنا التفسير وكان بمثابة الأب الروحي لنا، وأمثال (الباشا) بصوته المميز الفصيح، والدكتور محمد رجب البيومي بموهبته الأدبية فهو شاعر وأديب وحساس ورقيق معنا جداً. ليت الإذاعة تعيد تلك البرامج الأصيلة بانتظام. وليت التلفزيون يعيد أحاديث الشيخ الطنطاوي على مائدة الافطار.