خلال العقد الأخير تعاظمت وتفاقمت فوضى التمذهب والتفرق والتحزب داخل العالم الإسلامي بصورة تنذر بالخطر، وتدعو للقلق خصوصاً بعد سقوط العراق تحت براثن الاحتلال الأميركي، ومن قبله غزو أفغانستان، ما أعاد إلى الأذهان خطورة نشوء الفرق والنحل السياسية والأيديولوجية والإثنية والدينية، كما كانت قبل ألف عام.ودراسة للموضوع من الوجهة الفكرية، ومحاربة للظاهرة التي تتفاقم كل يوم، بفعل الجهل حيناً، والنرجسية والمصلحية حيناً آخر صدرت أخيراً «موسوعة الفرق والمذاهب في العالم الإسلامي» عن المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في القاهرة، في مجلد ضخم احتوى على (886) صفحة من القطع الكبير عام 2007 بإشراف محمود حمدي زقزوق، وتحرير كل من حسن الشافعي، وعبد الحميد مدكور، وعبد الرحمن سالم، تتضمن سبعاً وأربعين فرقة، من أهم الفرق والمذاهب التي ظهرت في العالم الإسلامي، وانتسبت إلى الإسلام منذ ظهوره وحتى العصر الحاضر. والموسوعة تعرض لنشأة هذه الفرق وتطورها، وتبرز آراءها واتجاهاتها الفكرية، ومن أهمها: الأشعرية، والماتريدية، والسلفية، والشيعة، والأباضبة، والزيدية، والمعتزلة. وهدف الموسوعة ليس تأكيد الفرقة والاختلاف بين أبناء الأمة الإسلامية، بل إنها قصدت تأكيد عكس ذلك تماماً، فاختلاف الآراء والمذاهب أمر طبيعي، بل لعله يثري التجربة الإنسانية، ويزيدها خصوبة وعمقاً، ويفتح مجالات مختلفة للفكر والنظر ولكنه الاختلاف الإيجابي، وليس السلبي – كما يقول الدكتور زقزوق في تصويره للموسوعة – وقد يدرك قارئ الموسوعة أن كثيراً من الاختلاف بين أتباع هذه الفرق والمذاهب ثانوي لا يمس جوهر الأشياء، وأن الجميع يسعون إلى غاية واحدة هي خدمة الفكر الإسلامي وإثراء ينابيعه، وأن الأرض المشتركة التي تجمع بين المسلمين أوسع مساحة من مواطن الاختلاف. والموسوعة تلبي حاجة فريقين: الفريق الأول: يتمثل في الباحثين الذين يحرصون على المنهج العلمي في العرض والتوثيق، وأسلوب التناول. والفريق الآخر: يتمثل في جمهور القراء الذين ينشدون الاستزادة من المعرفة، ويهمهم وضوح الفكرة، وسلامة العبارة والبعد عن التفصيلات التي لا تضيف كثيراً إلى جوهر الموضوع. وقد يلاحظ المرء أن الموسوعة لم تشر إلى بعض الفرق والمذاهب الفرعية، وهذا راجع إلى أن هذه المذاهب الفرعية ذكرت في مكانها من المداخل الأساسية للموسوعة. يؤكد زقزوق أن الجهل بالفرق والمذاهب الإسلامية من شأنه أن يعمل على سد منافذ المعرفة، وبالتالي يزيد الفرقة، ويشعل نار النزاع بين أتباع الفرق والمذاهب، أما العلم فإنه رحم بين أهله، من شأنه أن يفتح الباب أمام التسامح وقبول الآخر واحترام وجهات النظر المخالفة، ونحن نحسن الظن بجميع الفرق المذاهب التي تكون قد أخطأت في التأويل أو التفسير، وكما يقول الشيخ محمد عبده «لقد اشتهر بين المسلمين وعرف من أحكام دينهم أنه إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مئة وجه، ويحتمل الإيمان من وجه واحد، يحمل على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر». وتأتي هذه الموسوعة المهمة ضمن مشروع المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في القاهرة بعد سلسلة من الموسوعات الضخمة التي صدرت من قبل وهي: الموسوعة الإسلامية العامة، والموسوعة القرآنية المتخصصة، وموسوعة علوم الحديث الشريف، وموسوعة أعلام الفكر الإسلامي، وموسوعة الحضارة الإسلامية، وموسوعة التشريع الإسلامي. وهكذا تدعو الموسوعة الأجيال الجديدة إلى فهم حيثيات الاختلاف الفكري وضوابطه وشروطه، مع التوكيد على أن المسلم مجبول على التفكير وإعمال العقل والنظر، في كل الأمور، شريطة ألا يصادر حق الآخرين في المعرفة وإبداء الرأي أيضاً.