صار من المألوف في السنوات الماضية أن يُبادر بعض "طلبة العلم" والوعّاظ و"الدعاة" إلى إصدار "بيانات" في أعقاب كل حدث طبيعي مدمِّر، يَحكمون فيها بأن ما حدث من دمار ووفيات نتيجة لذلك الحدث ليس إلا "عقوبة إلهية"، أو، في أحسن الأحوال، "تنبيها" للناس على الموبقات التي ارتكبوها أو يرتكبونها، ليتوبوا ويعودوا إلى الطريق المستقيم. وليس هناك حاجة للتذكير بتلك "البيانات" والفتاوى التي صارت أمرا متوقعا كلما حدث شيء من تلك الأحداث. وتكفي الإشارة إلى التألّي على الله الذي ورد في "بيان" بعض "طلبة العلم" عن كارثة السيول التي اجتاحت بعض مناطق جدة قبل أشهر. فقد وردت فيه المطالبة ب"منع المظاهر العامة للمنكرات وتعزيز دور هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاهتمام بالمناشط الدعوية النافعة، فإن الذنوب والمعاصي من أكبر أسباب نزول البلاء قديما وحديثا". وهذا حكمٌ لا مواربة فيه بأن "الذنوب والمعاصي والمظاهر العامة للمنكرات" كانت فاشية في جدة، وهو ما جعلها تستحق التعرض لتلك الكارثة الفاجعة. غير أن الملاحظ أنه لم يصدر إلى الآن أي "بيان" مماثل، أو أية فتوى مماثلة ، بإدانة "أهل الرياض" ، زعما بأن ما تعرضوا له من السيول وتعطيل الحياة، إنما كان بسبب "الذنوب والمعاصي والمظاهر العامة للمنكرات" الشائعة في الرياض! وكان المتوقع من هؤلاء الوعاظ و"البيانيين" الذين اعتدنا على مجازفاتهم بمثل تلك البيانات والفتاوى أن يدينوا "أهل الرياض" كما أدانوا كثيرا من الناس بسبب ما وقع من أحداث طبيعية ليس آخرها كارثة تسونامي التي ضربت إندونيسيا، وكارثة الفيضانات التي تسبب فيها إعصار كاترينا في أمريكا، وكارثة السيول التي أغرقت أهل جدة قبل أشهر، من بين إدانات أخرى مماثلة. ويبعث هذا على التساؤل عن سبب امتناع هؤلاء عن اتهام "أهل الرياض" بارتكاب الذنوب التي تستوجب مثل هذه العقوبات الإلهية. فهل يكمن السبب في أن هؤلاء الوعاظ و"البيانيين" ينظرون إلى "أهل الرياض" نظرة مختلفة عن الناس في أرجاء العالم، ومنهم المسلمون، وهو ما يدعوهم إلى تبرئة "أهل الرياض" من ارتكاب المخالفات الدينية التي تستجلب مثل هذه العقوبات؟ أم ترى أن السبب يكمن في أن أكثر هؤلاء الوعاظ و"البيانيين"، بل أكثرهم جرأة على التألّي على الله في هذا الشأن، يَسكنون، هم أنفسهم، في الرياض، وهو ما يعني أن إدانتهم ل"أهل الرياض" إنما تعني إدانتهم لأنفسهم كذلك؟ كنت أتوقع أن يجد هؤلاء الوعاظ و"البيانيون" في الدمار الذي نشأ عن العواصف الممطرة التي تعرضت لها الرياض، في هذه الفترة تحديدا، مسوِّغات مقنِعة لإدانة "أهل الرياض". وأحد هذه الموبقات التي تصلح أن تكون مسوِّغات لمن يريد استخدمها هو "الدعوة المنكرة!" إلى اختلاط النساء بالرجال التي نادى بها بعض "أهل الرياض"، وكان من بينهم بعض المسؤولين في بعض المؤسسات الدينية الرسمية الذين يعيشون في الرياض! أيمكن الظن بأنه لو حدثت هذه السيول وتعطيل الحياة في غير الرياض في هذه الفترة لبادر هؤلاء الوعاظ و"البيانيون" لإصدار مثل هذه الإدانات؟ إن عدم صدور مثل هذه البيانات والفتاوى عن كارثة الرياض يُوقِع هؤلاء الوعاظ و"البيانيين" في مأزق؛ ذلك أنه يجب عليهم إما أن يُصدروا فتاوى وبيانات مُشابهة يدينون فيها "أهل الرياض" كما أدانوا "أهل جدة"، وغيرهم من المسلمين وغير المسلمين، وإما أن يصدروا بيانات يُعلنون فيها صراحة تراجعهم عن بياناتهم وفتاواهم التي بادروا بها مباشرة بعد فاجعة جدة، وغيرها من الفواجع، وأن يعتذروا لمن أساؤوا إليه في تلك الفتاوى والبيانات، وأدانوه من غير دليل واضح. ومن باب إحسان الظن بهؤلاء أن يكون عدم إصدارهم لمثل هذه البيانات والفتاوى بإدانة "أهل الرياض" ، إنما يعود إلى وعيهم بخطأ مسلكهم السابق الذي يتمثل في الحكم الواثق بوجود ارتباط بين هذه الأحداث الطبيعية و"الذنوب والمعاصي والمنكرات". ويعني هذا أنهم صاروا الآن مقتنعين بأن هذه الأحداث المفجعة، في أي مكان في العالم، ليست إلا نتائج متوقعة لأسباب طبيعية لا علاقة لها بالناس ولا بذنوبهم. إن الأسباب الطبيعية لكارثة الرياض واضحة. ويتمثل السبب الأول بمرور العواصف الممطرة بكثافة بمنطقة الرياض. لكن هذا السبب لم يكن لينشأ عنه ما نشأ من دمار وخسائر لو لم توجد إلى جانبه بعض الأسباب الأخرى المهمة. ومن أهمها على الإطلاق أن البنية التحتية لتصريف المياه لم تكن مؤهَّلة لتلقي هذه الكميات الهائلة منها في وقت وجيز. ولم يكن أحد غافلا عن هذا الوجه من القصور؛ فقد كان نائب رئيس المجلس البلدي بالرياض المهندس طارق القصبي قد صرح ل"الوطن" منذ شهور بأنه "يجب على الجهات ذات العلاقة البدء فوراً في إيجاد حلول للأحياء (في الرياض) التي تعاني من تصريف السيول، من خلال تنفيذ المشاريع وفق مدة زمنية محددة وبآلية مناسبة تضمن الانتهاء منه في وقت وجيز، خاصة أن بعض المنازل تم بناؤها في بطون الأودية والشعاب، مبيناً أن شبكات تصريف السيول في الرياض لا تتجاوز 28% من أحياء العاصمة وهو الأمر الذي يجب التحرك لاحتوائه خلال الفترة المقبلة" ("الوطن"، 23 /12 /1430). وأكد هذه المشكلة ل"أهل الرياض" تصريحُ أمينها الأمير عبدالعزيز بن عياف للصحف بأن ما نُفِّذ من مشاريع تصريف المياه في الرياض يتراوح بين 25% و30% منها. وتمثل هذه التصريحات الرسمية كلها اعترافا بوجود مشكلة لولاها لما كان للعواصف الممطرة أن تُحدث ما أحدثته من دمار وتعطيل للحياة في الرياض لأيام. ومن هنا فأسباب ما تعرضت له جدةوالرياض وبعض المدن الأخرى في المملكة من دمار بسبب العواصف الممطرة ، لا يعود إلى أسباب غيبية تتمثل في ذنوب المواطنين وارتكابهم المعاصي، كما يزعم بعض الوعاظ و"البيانيين"، ذلك أن أسبابها تكمن بوضوح متفق عليه في القصور الهائل في التخطيط للمشاريع الحكومية وتنفيذها ومراقبة ذلك التنفيذ. ولا يفيد في حل المشكل الآن أن يتقاذف المسؤولون المسؤولية. فهم مشاركون جميعا في هذا القصور، وهم مطالبون جميعا بتحمّل المسؤولية عنه، ويجب على كل واحد منهم التحلّي بالشجاعة ليعترف بنصيبه من الإسهام في التسبب بالنتائج الكارثية التي تعرضت لها مدننا بسبب عواصف ممطرة ، ما كان لها أن تحدث ما أحدثته من تدمير لو نفذت المشاريع بصورة جيدة.