عبد العزيز البرتاوي - نقلا عن الاسلام اليوم تماماً، قبل أربعة أشهر ونصف كانت الفضيحة من نصيب "جدة"، المدينة العروس، الساعية إلى دور السينما، وهي بعد لمّا تحصّل شوارع سويةً للسير، ولا مجارير صالحة لتصريف مياه الأمطار والمخلّفات الآدمية. الحجّة حينذاكَ: الحكومة منشغلة بالحجّ العظيم، والأحياء العشوائية .. عشوائية حتى في الموت، وأنّ الجنوب دائماً جنوب، وأنّ الذي أخطأ، صاحب المخطّط، لا الذي خطّط أن يكون ثمّة مخطّط. ومرّت الكارثة بسلام. تركت الحكومة الباب موارباً لبضعة كتّاب تمرّنوا لأول مرّة على نقد المسؤول. لمقالاتٍ، استثمر "قائلوها" كتابةً بصور الحزن والدمع والخراب. كانت ثمّة تصاوير أدبية جميلة، لمأساة واقعيّة قبيحة. تبدّت أكوام من الرؤى، ورزم من الأفكار، لم يكن بحسبان الصحافة المدجّنة جيّداً أن تشهدها، وفرح المخلّفون من الأعراب، الذين لم يغرقوا بعد، محيلين الأمر "الخارق" حيناً إلى الفجأة، وحيناً إلى نوع من المعاصي والفساد والآثام، لا تحدث إلاّ في مناطق بعينها. بيد أنّ الغرقى غرقى، والنكبة نكبة، وهي أشياء غير صالحة للتأجيل ولا للتجميد حتى الآن، والغرقى قد نشفوا، وترمّموا، لا يزال البحث عن المسؤول جارياً. غير مدركين تماماً، ولا واعينَ أنّه في بلدان الفساد والفوضى .. لا يوجد مسؤول مسوؤل ! الرياض، لم تكن فضيحة. كانت مهزلة. الأحياء التي غرقت، والشوارع التي استحالت إلى مجارير، هي مناطق الشمال، حيث الأحياء الأكثر جدةً، والشوارع التي للتوّ لمّا يمض عليها عقد من زمان، وعليه أصبح المطر يمثّل لنا، نحن قاطني الصحراء، موسماً لفرجة الآخرين، الذين ساعدنا ووهبنا ومنحنا، لنكتشف أنّا كنّا نهب للآخرينَ عكاكيزَ كثيرة، قبل أن نستقيم على أقدامنا، وأنّ البلدان التي وهبنا، ربمّا تلتفت الآن مستغربة: "ليش هيك عم بيصير" ! المرور الذي تشدّق قبل فترة بنظام "ساهر"، أصبح اليوم راقداً، في بحيرات مستطيلة، لم يجهّز لها طواقمه البحرية بعد، وربما يحيل نظامه إلى "غاطس"، حتى يتمّ كشف كلّ المتوقفين خطأ في طريق سريع محفور، أو كبري جديد، عكس الطريق فجأة، فقرّر السائرون عليه ألاّ يخالفوا أكثر. المهزلة تبدّت في صورة أخرى، لدى كتّاب الصحف. أولئك الذين كتبوا كثيراً من أجل غرق الرياض، ونقدوا، وشجبوا واستنكروا، كأي زعماء ومثقفين عرب، حيث المكان الوحيد في العالم، الذي يتشابه مثقفوه وسلاطينه، بل لا يوجد مثقّف "صالح" يستطيع أن يقول إن مسؤوليه غير مثقفين. فعلوا كلّ ما يمكنهم من ملء أعمدتهم بالحبر الأسود، والدموع كذلك، دون أن تكون ثمّة إشارة واضحة إلى القافلة التي تنبح، على الرغم من أنّ الكلاب لا تسير. إشارة إلى أنّنا نتحدث عن العاصمة، وعن أحياء غير عشوائية يا جدة الأرملة لا العروس، إلى طرق حديثة جديدة، ومدينة "خيّلت" علامةً فارقة في صحراء قاحلة، زعموا أنّك لن تحفر حفرةً في الأرض، ولا سلماً جانب البيت إلاّ بإذن ورصد وتدقيق، لنكتشف كم أنّا نسكن مدينة من ورق... كلّما اجتمعت ثلاث سحابات، حوّلتها من مدينة كبرى، إلى بركة موحلة، ومستنقع للفرجة في نشرات الأنباء المسائية وأحوال الطقس. أترحّم الآن على "منيف". على الروائيّ الذي كان أكبر من أن يبتلّ معنا، فهرب ليعيش في صحوٍ، ولو كان جافاً. أترحّم عليه، وأنا أتذكر مقولته: نحن في وطنٍ، مرّت عليه (100) عام. كان يمكن أن يكون فيها شيئ، لكنّه للأسف لم يكن. صوّروا أكثر. اكتبوا. فرّجوا العالم كم نعيش من مهازل.. كم تنكشف لدينا مع كلّ رشقة مطر سجّلات الخراب والفساد.. كم كنّا نباهي بوطنٍ من ديكور أجوف ! ماذا لو كان ثمّة زلزال أو بركان أو إعصار. هل يصبح هذا الوطن حكاية لا تشبه أطلنطا القديمة كثيراً ؟! كعادته ، معالي خطيب الجامع ، يبتهل إلى الله هذه الجمعة، أنّ يرزقنا مطراً غدقاً سحّاً عاماً نافعاً، للعباد والبلاد. ومنابت الشجر، والنخيل المقلوع في شوارع الرياض، والكباري المكسورة، والشوراع المتقطّعة، وأكثر من ذلك: سيرفع صوته أكثر وهو يردّد: ارحم موتى المسلمين في الشيشان والصومال وأفغانستان وفلسطين، دون أن يتذكّر -عفا الله عنه- شهداء الأمّة في جدّة والرياض !