لم يمت فجأة ولا سكتة ولكنه، كما نحسب عندالله، استجابة دعاء السجود بحسن الختام. كان القدر الإلهي أن يأتي برجليه مسافراً إلى جوار بقيع الغرقد حيث هي تلك الأسماء العظام التي طالما عبرت لسانه تدبراً وذكراً طيلة حياته. حيث هي الأسماء الخالدة، ومن حسن الختام أيضاً، أن تنام بينها راقداً حياة البرزخ. لم يرحل شيخ الإسلام ولكن: انطفأت المنارة. مات حارس المآذن، وكلما ضجت مآذن مصر بنداء الصلاة فاذكروا الله ثم تذكروا مصر فإن أهلها في رباط إلى يوم القيامة. كان فضيلة الشيخ محمد سيد طنطاوي مجاهداً في كلمة الله العليا ومقاتلاً من أجل الالتزام والفضيلة ومن أجل صورة الاعتدال والتسامح. انظروا إلى وجهه الكريم ثم تأملوا تفاصيل صورة الوطن البشوش. صورة التفاصيل النظيفة النقية الطاهرة. ضعوا إلى جوار وجهه عشرات الوجوه ثم أدخلوا أنفسكم في امتحان القبول: أي من الوجوه هو أقرب للنفس، للذوق، للقبول والمحبة؟ حتماً ستخرجون بصورة واحدة. هكذا مات حارس المآذن. مات وفي جوفه نسخة من القرآن الكريم، محفوظة وهو لم يبلغ العاشرة، فكأنما عظام صدره (لوحاً) لكلمة الله العليا، ومات حارس المآذن الذي بلغ صباه وهو لم يعرف من المآذن إلا ما كان لقرية (طما) في صعيد مصر، ثم عاش ليعرف بعدها آلاف المآذن. مات حارس المآذن الذي طالما صدح بكلمة الله العليا من منابر الأزهر الشريف وطالما تخالطت على آذانه ضجة التكبير بين مآذن الأزهر والحسين وابن العاص والسيدة وكل مساجد الأسماء التي خرجت من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم انتهت بالكنانة. الفارق أن حارس المآذن قد عكس الطريق: جاء من الأزهر إلى البقيع راجلاً على قدميه وهكذا كان حسن الختام، قدراً إلهياً، لا فجأة ولا سكتة وأي شرف أن تنتهي بك الحياة جنازة تذهب إلى بقيع الأصفياء الخلص ومن أمام من: من أمام محمد سيد الخلق. أي حماية نلوذ بها إلى الله أمتن من أن نعود إليه من بين يدي صفوة خلقه؟ وداعاً حارس المآذن: ادعوا له بالرحمة في يوم مبارك.