في صدور أعداد هائلة من المسلمين أشواق وتطلعات قوية إلى عزة الإسلام ورفعة المسلمين، ولدى كثير من الدعاة والمثقفين في الوقت نفسه معتقدات ورؤى تتعلق بحاجات الأمة وبمداخل إصلاح أحوالها، وانطلاقاً من هذه وتلك يحاول كل واحد من الذين يشعرون بالمسؤولية عن تقدم الأمة العثور على مساقات ومسارات للعمل والعطاء والنقد وبلورة الخطط.. وهم إذ يعملون في تلك المساقات يتطلعون إلى يوم الخلاص، ومع تطلعهم ذاك يحسِّون بالكثير من الارتياح والاطمئنان حيث يظنون أن ذمتهم قد برئت، وصار من حقهم توقع الفلاح والنجاح وبلوغ الأمنيات.. وتحدث أزمة نفسية وفكرية كبيرة حين يشعر الداعية أو المصلح أن ما كان يظنه طريقاً للإصلاح والرقي لم يكن طريقاً، أو هو طريق ضيق، أو مسدود، وتتفاقم المشكلة حين يشعر بالعجز عن العثور على طريق آخر، والحقيقة أن أي ناشد للإصلاح لا يستطيع أن يعمل بحماسة وعلى نحو مستمر، دون درجة عالية من الثقة بالمنهج الذي اختطه لنفسه، وبالأدوات التي يستخدمها في بلوغ ما يسعى إليه، وهكذا ففي النخب العربية من يظن أن استخدام السلاح هو السبيل لكسر شوكة الأعداء في الخارج، وهو السبيل لإعادة ترتيب الأوضاع في الداخل، وإطلاق طاقات المجتمع وتحريره من الأغلال التي تكبّله، ومن ثم وقع عدد كبير من الانقلابات العسكرية، ثم آل الأمر إلى استخدام العنف والتفجير من قبل بعض الشباب، وفي الدعاة من يعتقد أن وعظ الناس وتذكيرهم بواجباتهم الدينية والحضارية هو السبيل إلى صلاحهم وإصلاح أوضاعهم، ومن المثقفين من يرى أن لا صلاح للناس من غير إصلاح النظم السياسية وتوفير انتخابات حرة ونزيهة إلى جانب مكافحة الفساد، وهناك من يعتقد أن الخير معقود بناصية الجماعة الفلانية، أو الحزب الفلاني، أو القائد الفلاني، ويعتقد كثير من المفكرين أن عطب الأمة كامن في أدمغتها، وفي الأفكار والرؤى التي نرى من خلالها أنفسنا وواقعنا والعالم من حولنا، ولا سبيل إلى النهضة من غير تغيير تلك الأفكار والرؤى... أما علماء الأخلاق والتربية والمهتمون بالتزكية وتعديل السلوك، فيعتقدون أن الأزمة في الأساس أخلاقية، وأن إصلاح مناهج التربية وتأهيل عدد أكبر من المربين، واستعادة الأسرة لدورها الحيوي في تنشئة الأجيال.. هو المخرج مما نحن فيه.. وقد مضى الناس على ما ذكرناه عقوداً بل قروناً، لكن ما يحدث اليوم من تطورات تقنية وأخلاقية وفكرية، وما يحدث من تحوّلات في موازين القوى، قد جعل كثيرين منا يشعرون أن ما كان يظنونه طريقاً للخلاص ليس كذلك وأن أمور الإصلاح أعقد بكثير مما كانوا يعتقدون، وهذا جعلهم يفقدون نقطة الارتكاز وموضع الرهان، مما أسلمهم إلى اليأس والقنوط والانكفاء على الذات. السؤال الآن: لماذا يضيع الرهان، ويضيع معه الأمل في الفوز؟ الجواب ينطوي على الكثير من التعقيد، لكن لعلي أشير على نحو موجز إلى الآتي: 1 لا يخفى على أحد اليوم أن كثيراً من الأمور التي كنا نظنها محلية لم تعد كذلك، فالشركات العملاقة والدول النافذة صارت تتدخل في كل شيء: الأمن والاقتصاد والثقافة والإعلام، وهكذا فلم يعد هناك ما يمكن أن نسميه (الشأن المحلي)، وهذا يجعل كل الحسابات والتقديرات السابقة موضع شك وجدل. 2 حين يتخذ أحدنا منهجاً في الإصلاح، أو يحدد وسيلة يستخدمها فيه، فإن ما يفعله لا يعدو أن يكون تخميناً واجتهاداً، وهذا الاتجاه قد يصيب، وقد يخطئ، وحين أعود بذاكرتي أربعين سنة إلى الوراء أشعر أن كثيراً من رؤانا الإصلاحية كان قائماً على رؤية ضبابية وعلى مشاعر وعواطف ذاتية، كما كان قائماً على مرتكزات هشة وضعيفة، وإن اكتشافنا لكل ذلك اليوم يجعلنا نشعر بالكثير من خيبة الأمل، لكنه من وجه آخر يشكل لحظة حاسمة لبلورة رؤى ومناهج إصلاحية أكثر رشداً وأكثر التصاقاً بالواقع، وينبغي لهذا أن يكون موضع غبطة لنا ومصدراً للرجاء والتفاؤل. 3 نحن كثيراً ما نعقد الآمال في الإصلاح على وسائل وقوى جزئية ومحدودة؛ فالتربية لا تحلّ بمفردها إشكالات مجتمع يعيش الكثير من الأزمات والضغوطات، وقلْ مثل هذا في المال والنظم السياسية والأعمال الخيرية... فالحياة الاجتماعية عبارة عن سلسلة من الظواهر الكبرى، والظواهر الكبرى لا تُفسّر بعامل واحد، ولا ينفع في معالجتها مساق إصلاحي واحد، وهذا من الأمور البدهية التي نعجز عن رؤيتها أحياناً لشدة سطوعها. في المقال القادم سأوضح بحول الله تعالى أسس العثور على الرهانات الضائعة.