لم يكد أوار معارك الاختلاط يخبت حتى اشتعل من جديد بشكل أقوى من المتوقع عن طريق فتوى من من قبل أحد العلماء المتخصصين بالعقيدة في المملكة العربية السعودية وهو الشيخ عبدالرحمن البراك. وقبل الشروع في ماهية الفتوى لابد من القول إن الفتاوى الفردية والاستفتاءات الشخصية مما لا يمكن تقييده أو إزالته كون العامة بحاجة ماسة ويومية إلى من يفتيهم في مسائل الطهارة والإيمان والكفارات وغيرها، إلا أن الفتوى في مسائل الإيمان والكفر والإسلام والردة من المدلهمات الكبار التي تشوش على العامة وتربك طلاب العلم، لاسيما في زمن باتت فيه الفتوى أقوى محركات التطرف من قبل أناس يبحثون عن شرارة للقتل ومفتاح لاستباحة الدماء. موضوع الاختلاط موضوع شائك وساخن إلى درجة أن الحوار وصل إلى الاتهامات المتبادلة بالتغريب تارة والتشكيك بالوطنية تارة أخرى. إلا أنني كغيري لم أكن أتصور أن يصل الأمر إلى مستوى فتاوى التكفير كالفتوى التي تداولها الكثير خلال الأسبوع المنصرم للشيخ عبدالرحمن البراك التي جاء فيها من الإسقاطات التكفيرية ما لو أردنا العمل به لكفرنا سوادا عظيما من علماء المسلمين وليس عامتهم حيث يقول فضيلته في فتواه (ومن استحل هذا الاختلاط -وإن أدى إلى هذه المحرمات- فهو مستحل لهذه المحرمات، ومن استحلها فهو كافر، ومعنى ذلك أنه يصير مرتدا، فيُعرَّف وتقام الحجة عليه فإن رجع وإلا وجب قتله) وبذلك يلزم الشيخ البراك كل من استحل الاختلاط استحلال جميع المحرمات المعلومات من الدين بالضرورة وذلك هو القائد إلى الكفر! وهو إلزام غريب وعجيب لاتمكن استساغته علميا ولا شرعيا. ولتأكيد ما قلته عن الإلزام وحتى لا أتهم بتقويل الشيخ ما لم يقل، أنقل نص ما قاله (والأصل في ذلك أن من جحد معلوما من دين الإسلام بالضرورة كفر لأنه مكذب أو غير ملتزم بأحكام الشريعة، وهذا مقرر ومعروف عند علماء الإسلام). للشيخ البراك مطلق الحرية في التعبير عن رأيه كما يحق للآخرين التعبير عن آرائهم إذا كان المنطلق حرية التعبير، لكن الإشكال تجاوز التعبير إلى الأحكام الكبرى في الإسلام ومنها (الكفر) ومن المعلوم أن الكفر حكم قضائي يمارسة القاضي عند اكتمال الشروط وانتفاء الموانع وقد استنكر السلف رحمهم الله مقولة (من قال كذا فهو كافر) في تكفير المعين. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في وصف منهج أهل السنة والجماعة في التكفير فيقول (وأهل السنة يتبعون الحق من ربهم الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يكفرون من خالفهم فيه، بل هم أعلم بالحق وأرحم بالخلق). ويقول في موضع آخر (فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفرهم. لأن الكفر حكم شرعي فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك وزنى بأهلك؛ ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله، لأن الكذب والزنا حرام لحق الله تعالى، وكذلك التكفير حق لله فلا يكفر إلا من كفره الله و رسوله). إن الخلافات الفكرية والشرعية لايجب أن تقودنا إلى التلويح بسياط التكفير لردع القائلين بآراء لانستسيغها أو نرى حرمتها وهي مما يسع فيه الخلاف فليست من المحرمات القطعية ولا من المعلومات العقدية المعلومة من الدين بالضرورة! المواقف المتباينة من الاختلاط والتصعيد المتبادل يذكرنا بمواقف مشابهة على مر التاريخ الإسلامي لم يستطع فيها العلماء فهم بعضهم البعض في استساغة الخلاف فيها، فأدى ذلك إلى الاستعانة بالسياسي لردع المخالف وهو ما لا نتمناه في هذه المسألة وإن كانت شرارته قد انطلقت في البدايات! إلا أن ذوي العقول والأفهام من الطرفين وكلاهما من أهل العلم والفضل المبيحين والمحرمين يجب أن ينقلوا المعركة إلى البحث والتدقيق في أروقة البحث العلمي وليس على منابر التحريش ضد بعضهم البعض ولا التكفير. يبقى أن علمية الشيخ البراك ومنزلته العمرية تتطلب أن يتدخل أحد من العلماء الموازين له في العلم والسن ليناقشوه في إلزاماته التي ضمنها فتواه عن الاختلاط، لاسيما إذا كان المخالف للفتوى ممن لايرون جواز الاختلاط لأننا بحاجة إلى أن نستوعب أن نختلف دون أن يكفر أو يخون بعضنا بعضا. فنحن في المملكة نعيش اليوم منعطفا خطيرا حول تباين حاد في المدارس العلمية هذا التباين يجب أن لاينقلب إلى عداء حتى لاننشغل في ذواتنا عن غيرنا لاسيما وأننا مطالبون بمسابقة الزمن لرد هوة الجهل والأخذ بناصية العلم التي أمرنا الله بها.