{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً} [مريم: 54]، أي كان عليه السلام لا يعد وعداً إلاّ وفى به، ولو كان شاقاً، وفي التعبير باسم الفاعل، دلالة على أن صدق الوعد صفة ثابتة له، وفي إدخال أل ما يشعر باستغراقٍ لكافة ما يع به من أنواع الوعود، وقد قال بعض المفسرين: لم يعد موعد إلاّ وفى بها، وفي هذا دليل على شيئين: دقته وشدة التزامه، بالإضافة إلى عقله وحسن تقديره، فلا يعد بما قد يعجز عن الوفاء به فيحوجه إلى الاعتذار، ومن تأمل أخباره عليه السلام يجد من صدق وعده عجباً، ولهذا لما قال لأبيه: (ستجدني إن شاء الله من الصابرين) صبر ومكن أباه من الذبح، قال القرطبي رحمه الله: "صدق الوعد محمود وهو من خلق النبيين والمرسلين، وضده وهو الخلف مذموم ، وذلك من أخلاق الفاسقين والمنافقين .... وقد أثنى الله تعالى على نبيه إسماعيل فوصفه بصدق الوعد. واختلف في ذلك ؛ فقيل : إنه وعد من نفسه بالصبر على الذبح فصبر حتى فدى.... وقيل: وعد رجلا أن يلقاه في موضع فجاء إسماعيل وانتظر الرجل يومه وليلته، فلما كان في اليوم الآخر جاء ؛ فقال له : ما زلت ها هنا في انتظارك منذ أمس. وقيل : انتظره ثلاثة أيام. وقيل فعل مثله نبينا صلى الله عليه وسلم قبل بعثه ؛ ذكره النقاش وخرجه الترمذي وغيره عن عبد الله بن أبى الحسماء قال : بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ببيع قبل أن يبعث وبقيت له بقية فوعدته أن آتيه بها في مكانه فنسيت ، ثم ذكرت بعد ثلاثة أيام ، فجئت فإذا هو في مكانه ؛ فقال : "يا فتى لقد شققت علي أنا ها هنا منذ ثلاث أنتظرك" لفظ أبي داود..... وقد قيل : إن إسماعيل لم يعد شيئا إلا وفى به ، وهذا قول صحيح ، وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية ؛ والله أعلم". فصح بذلك أن الوفاء بالمواعيد من خلق الأنبياء والمرسلين، وليس خلقا مستورداً من الغرب أو الشرق، وأن صادق الوعد أهل لأن يذكر ويشاد بفضله، وقد تمدح الله عز وجل بصدق الوعد، في آيات كثيرة: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الحج: 47]، {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: 6]، {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} [الزمر: 20]، {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 9]، فدل ذلك على أن صدق الوعد صفة محمودة، وهذه الصفة مما جاء الشرع بالحث على التخلق بها، وذلك أن من صفات الله ما هي كمال في حقه وحده سبحانه كالجبروت، ومنها ما هي كمال حتى في حق عباده كالصدق، ومنها ما فيه تفصيل، ومن الصفات ما هو كمال في حق البشر ليست بكمال في حق الخالق جل وعلا، وصدق الوعد من صفات الكمال في حق الخالق، وقد دل الشرع على أنها صفة كمال في حق المخلوق وكل ذلك عند الوعد بالخير، أما إخلاف الوعد بالعقاب فجائز وقد يكون صفة مدح، وأما إخلافه بالشر فواجب وهذا قد يقع من جهة المخلوق الذي يوصف بالشر وقد يعد به. ومن النصوص التي تدل على أن الصدق في الوعد مأمور به من ذلك أن الله سبحانه وتعالى قد أثنى على الذين يفون بالعهود والوعود، قال تعالى واصفاً المؤمنين: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} [الرعد: 19-20] إلى بقية الآيات، وقال: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} إلى قوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]. وقد خص الله إسماعيل فأثنى الله عز وجل عليه بصدق الوعد فقال عز من قائل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم: 54]، ولما كان صدق الوعد صفة كمال كان سمة الملائكة وهذا ما تستشفه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما في صحيح مسلم قال: "أخبرتني ميمونة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح يوما واجما فقالت ميمونة: يا رسول الله لقد استنكرت هيئتك منذ اليوم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن جبريل كان وعدني أن يلقاني الليلة فلم يلقني، أما والله ما أخلفني. قال: فظل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومه ذلك على ذلك ثم وقع في نفسه جرو كلب تحت فسطاط لنا فأمر به فأخرج ثم أخذ بيده ماء فنضح مكانه فلما أمسى لقيه جبريل فقال له: قد كنت وعدتني أن تلقاني البارحة. قال: أجل ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة"(1). وهو كذلك أعني صدق الوعد والتزام المواعيد سمت سائر الأنبياء، وإنما خص الله إسماعيل عليه السلام لتميزه، ومن الأنبياء الذين ذكر الله لنا من وفائهم ببعض مواعيدهم موسى عليه السلام عندما قال ملأ فرعون ما أخبر الله عنه في سورة طه: {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوَىً قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً} [طه: 57-59]، وقد قيل في قول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} [مريم: 50] المراد به الوفاء بالمواعيد والعهود، ومن تأمل سيرة محمد صلى الله عليه وسلم وجد صوراً كثيرة لصدق الوعد، وبالجملة النبي لا يتصور إلاّ أن يكون صادقاً ولا يجوز عليه الكذب، لكن الصدق درجات، ومجافاة الكذب مراتب الأنبياء في أعلاها، ومن أعلاهم فيها درجة في المواعيد إسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ومن أكملهم في ذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا يتبدى في مظاهر لا تحصى: منها تحذيره أمته خلف المواعيد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان"، ولما كانت هذه صفات المنافقين، كان التلبس بضدها من صفات المؤمنين. ومن ذلك فعله فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق الوعد أيضًا، لا يعد أحدًا شيئًا إلا وفّى له به، وقد أثنى على أبي العاص بن الربيع زوج ابنته زينب، فقال: "حدثني فصدقني، ووعدني فوفى لي". ولتعظيم أمر الوفاء بالوعد في نفوس أصحابه قال أبو بكر رضي الله عنه لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم: من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدَةٌ أو دَيْن فليأتني أنجز له، فجاءه جابر بن عبد الله، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قال: "لو جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا"، يعني: ملء كفيه، فلما جاء مال البحرين أمر الصديق جابراً، فغرف بيديه من المال، ثم أمره بِعَدّه، فإذا هو خمسمائة درهم، فأعطاه مثليها معها)(2). ولما كان إسماعيل جد العرب كان صدق الوعد عندهم مما بقي فيهم يتمدحون به ويقدحون ويذمون بضده، ومن أمثالهم السائرة: آفة المروءة خلف الموعد، وقولهم: أنجز حر ما وعد، وقالوا: وعد الكريم نقدٌ، ووعد اللئيم تسويف، ومن أشعارهم قولهم: فلا تعد عدةً إلا وفيت بها *** ولا تكن مخلفاً يوماً تعد وأظن هذا من قول المثقب العبدي: لا تقولنّ إذا ما لم ترد *** أن يتمّ الوعد في شئٍ نعم وإذا قلت نعم فاصبر لها *** بنجاح الوعد إنّ الخلف ذم وقال آخر: إذا قلت في شئٍ نعم فأتمّه *** فإنّ نعم دين على الحرّ واجب وروى لعمار الكلبي، وأظن من شعره هذا: قم لوجه اللّه وكن *** صادق الوعد فمن يخلف يلم ولو لم يكن في خلف المواعيد إلاّ شمول الخالف قول الحق سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) لكفى. ولهذا كان المثنى بن حارثة الشيباني يقول: لأن أموت عطشاً، أحب إلي من أخلف موعداً. لله درّك من فتى = لو كنت تفعل ما تقول! لا خير في كذب الجواد وحبذا صدق البخيل! ومن ضربهم المثل المذموم في إخلاف الوعود قول زهير: كانت مواعيد عرقوب لها مثلاً *** وما مواعيده إلاّ الأباطيل! وقال الأشجعى: وعدت وكان الخلف منك سجيّة *** مواعيد عرقوبٍ أخاه بيثربٍ ويروى بيترب. قال ابن الكلبي، عن أبيه: كان عرقوبٌ رجلا من العماليق، فأتاه أخ له يسأله شيئاً،فقال له عرقوب: إذا طلع نخلى فلما طلع أتاه فقال له: إذا بلح، فلما بلح أتاه، فقال:إذا زهى،فلما زهى أتاه، فقال:إذا أرطب، فلما أرطب أتاه، فقال: إذا ثمر، فلمّا ثمر جذّه ليلا، ولم يعطيه شيئاً، فضربت به العرب المثل في خلف الوعد. وقال غيره: عرقوب جبل مكلّل بالسحاب أبداً، ولايمطر شيئاً. وأخيراً أخي الكريم: الحر تكفيه الإشارة! فهلا انتفعنا من هذه الإشارات؟