بدأت تتلاشى في السنوات الأخيرة سماع أصوات أعيرة التصريح بالتكفير، وذلك منذ أن انكشف لدى الجميع اعتماد الجماعات الإرهابية في عدوانهم على جملة من المقولات والتأصيلات التكفيرية حتى أصبحت أي دعوى لخطاب تكفيري تجاه الآخرين مدعاة لنفور معظم أفراد المجتمع منه، التي باتت تدرك تماماً، وبفضل جهود الخطاب التنويري والثقافي المتسامح، العواقب الوخيمة لمثل تلك الخطابات والدعوات التكفيرية الصريحة التي باتت موضع رفض جماهيري وشعبي لها، أياً كانت مكانة أو شهرة قائلها، حتى باتت تلك التيارات الدينية المتشددة، ونظراً إلى ظروف المرحلة تسعى جاهدة لكبح جماح خطابها التكفيري وتفضيل الصمت المرحلي ليس عن قناعة مطلقة بخطورة وشناعة التكفير وآثاره وإنما من اجل الحفاظ على ما تبقى من مكتسبات على ارض الواقع، ولكن وفي المقابل ومع إدراكهم تماماً بحجم الخسائر والتراجع الشعبي بسبب ما قد يحصل، أو يقع من بعض الفلتات والتجاوزات المنبرية التكفيرية من حين لآخر التي تستدعي عقلاً ومنطقاً منهم تقويمها وردها لجادة الطريق تجدهم وللأسف ونظراً إلى ضعف إيمانهم وقناعتهم بخطورة القضية سرعان ما يصطفون للدفاع عن مثل تلك الفلتات، ولا أدل على ذلك من موقفهم من الخطاب التكفيري الأخير من الداعية العريفي الذي لم يحظَ بتأييد من عامة أفراد المجتمع. لقد دعا أحد أبرز رموز الصحوة، وهو المشرف على موقع المسلم، الشيخ الدكتور ناصر العمر، في محاضرة ألقاها في الأسبوع الماضي تحت عنوان «منهج التفكير ضوابط ومحاذير» الشباب إلى ما هو أعظم من جهاد الكفار في ارض العراق وأفغانستان، إذ قال «يأتيني بعض الشباب وهم يرغبون بالذهاب إلى أفغانستان والعراق للجهاد في سبيل الله، فأقول لهم تلك البلاد، حتى ولو كانت ارض جهاد، فلا تذهبوا للجهاد هناك، فأمامكم الجهاد هنا وهو جهاد المنافقين من العلمانيين والليبراليين، وذلك كل بحسب قدرته وطاقته»، واصفاً جهاد المنافقين بأنه «أصعب من جهاد الكفار، وهو جهاد الخواص لهذه الأمة وورثة الرسل، والقائمون به أفراد في العالم والمشاركون فيه والمعاونون عليه، وإن كانوا هم الأقلون فهم الأعظم قدراً عند الله جل وعلا»، إن مثل الدعوى إلى مجاهدة الكتاب والمثقفين والإعلاميين الليبراليين والعلمانيين وجميع التيارات المخالفة والمناهضة لأفكارهم، سواء الليبرالية أو الحداثية وغيرها تحت إطلاق مسمى ووصف النفاق، هو تكتيك حديث لما يمكن لنا تأطيره تحت مسمى «التكفير بالتورية» وهو الاكتفاء بالتلميح من دون التصريح، فهم حينما يطلقون مثل هذا الوصف على أولئك فليس مقصودهم حتماً النفاق العملي أو الاجتماعي. وإنما قصدهم هو النفاق الاعتقادي الذي يعتبر من اشد صور الكفر، ليس ذلك فحسب بل إن صاحبه (في الدرك الأسفل من النار) لذلك فبعد أن أصبحت قضية الرمي بالتكفير واتهام الناس به أمراً مرفوضاً دينياً واجتماعياً ويترتب على قائلها الكثير من المفاسد، لاسيما في هذه المرحلة، فقد أوجدت تلك التيارات المتشددة لها المخرج والمتنفس والبديل من خلال ترويج تهمة النفاق، خصوصاً أن هذه التهمة من السهل إطلاقها وتوجيهها لفئات كثيرة جداً وتوسيع دائرة استيعابها وذلك بسبب هلاميتها في مقابل مفردة التكفير التي تستلزم مستلزمات عدة، حتى طالت تلك التهمة من يختلف معهم في تصور قضايا فقهية خلافية كالاختلاط وغيرها، فالنفاق كونه أمراً يتعلق بالضمائر والقلوب أصبح من السهل إطلاقه وتوزيعه على الناس من غير أي اكتراث له ولعواقبه، خصوصاً أن المجتمع حتى هذه اللحظة لا يملك موقفاً رافضاً ونافراً من إطلاق الحكم والوصف على الآخرين بالنفاق والزندقة بمثل رفضه ونفوره من قضية التكفير. لقد أوضح حقيقة ونتيجة هذه الدعوى احد أبرز العلماء المتخصصين لدينا في علم العقيدة بقوله: «إن النفاق كان يطلق في عهد النبي على من كان يُظهر الإسلام ويبطن الكفر، ثم بعد ذلك صار يسمى زنديقاً، وفي زمننا هذا يسمى علمانياً، فالعلمانيون هم الزنادقة، وهم المنافقون، فالعلمانيون الذين يطعنون في الإسلام ويطعنون في الدين، ويتسترون باسم الإسلام هم منافقون وهم زنادقة، لأن أعمالهم وأفعالهم وأقوالهم تدل على كفرهم»، إنني لا ادعو إلى مصادرة حق أي احد في التعبير عن رأيه وموقفه تجاه أي قضية، فذلك حق يجب أن يكون مكفولاً لشرائح المجتمع كافة باختلاف تياراتهم وأفكارهم ولكن أن تجير تلك الاختلافات إلى اتهام الناس في مكنونات ضمائرهم وقلوبهم من خلال إسقاط تهمة النفاق والزندقة وتنزيل الآيات التي نزلت في المنافقين على أناس هم من أبناء هذا المجتمع وينتمون إلى هذا الوطن وشحن الشباب تجاههم لمجرد الاختلاف معهم في بعض القضايا فهو أمر لاشك في خطورة عواقبه وآثاره، ليس الآن ولكن على المدى البعيد، وهو ما يجعلنا نعيد التساؤل مجدداً سواء الآن أو لاحقاً: من أين وكيف تسرب فكر التكفير لدى أبنائنا؟ وهل هو فكر دخيل علينا؟! [email protected]