ل"الدولة المدنية" مفهومها الخاص، بل و"الشاذ" لدى النخب العلمانية العربية في نسختها اليسارية المتطرفة.. فعلى الرغم من أن مصطلح "مدني" وُلد من رحم النضال ضد كل ما هو "أمني"، وفي سياقه استقر في أدبيات علم الاجتماع السياسي على أن "الدولة المدنية" جاءت كصيغة بديلة ومتقدمة وأكثر تحضراً وإنسانية من "الدولة الأمنية"، إلاّ أن العلمانيين العرب من دون النخب الثقافية الأخرى في العالم هي التي جعلت من "الدولة المدنية" مشروعاً للنضال السياسي والفكري والثقافي المناهض ل"الدولة الدينية". هذه المنحى العلماني "المراوغ" افتعل وجوداً لدولة غير موجودة أصلاً في العالم الإسلامي لا عبر تاريخه الطويل، ولا في حاضره القصير منذ سقوط دولة الخلافة عام 1924، وذلك في إطار سعيه نحو البحث عن مسوّغات لتصفية تجليات "الإسلام الحضاري" على مستوى اللغة والثقافة والهوية والخصوصية الحضارية؛ إذ تظل "الدولة الدينية" -وكما نبتت في بيئتها الغربية وعلى يد المسيحية السياسية، وبكل ما تحمله من إرث دموي واستئصالي- أفضل "فزّاعة" لتخويف الرأي العام من "الإسلاميين"؛ بوصفهم القوة الاجتماعية الحاملة لمشروع "الدولة الدينية" في صيغته التاريخية المعادية للحريات وحقوق الإنسان وحرية العقيدة، وما شابه من مصطلحات صنعتها الانتصارات المتتالية للعلمانية على الكنيسة والمسيحية في أوروبا خلال القرون الثلاثة الأخيرة. كان أهم ما يشغل بال العلمانيين العرب، هو توريط الإسلاميين في خطاب إعلامي وسياسي، يبدو وكأنه يعادي فكرة "الحقوق" ذاتها، طالما كانت مرتبطة بالطرح العلماني على أساس أن كل ما يصدر عن الأخير هو باطل بالضرورة، مما أفضى في نهاية المطاف إلى تأطير التيار الإسلامي بوصفه تياراً كارهاً ب"إسلامه" لكل ما يتعلق ب"حقوق الإنسان"، وهي النقطة التي دلف منها العلمانيون لتخويف الرأي العام من المشروع السياسي الإسلامي، وتقديمه في صورة الامتداد "الطبيعي" للدولة الدينية، وكما عرفتها أوروبا المسيحية في عصور ما قبل التنوير. ظل السجال محصوراً في إطار "التنظير". انتصر فيه العلمانيون بسبب "عصبية" الإسلاميين واصطيادهم بسهولة في "الشرك" العلماني الذي استهدف الإساءة إليهم وتشويه مشروعهم السياسي والحضاري، وتصنيفهم كقوى معبرة عن "الظلامية الدينية" المناهضة ل"التنوير المدني"!! لم تكن ثمة محكّات حقيقية لاختبار صدقية الطرفين، إلاّ في بعض الدول التي اشتبك فيها إسلاميون وعلمانيون عبر منصات القضاء؛ إذ أسفرت الأحكام التي صدرت لصالح إسلاميين، عن كراهية عميقة عند العلمانيين ل"الدولة المدنية"، والتي يعتبر القضاء أحد أهم ركائزها على الإطلاق؛ إذ نظّم العلمانيون حملات "إرهاب" عاتية على القضاة وعلى المؤسسات القضائية التي أدانت علمانيين في قضايا سب وقذف، وشرعوا في التشكيك في حيدتها ونزاهتها إلى حد تخويفها والتحريض عليها، وذلك باتهامها بأنها مؤسسات "مخترقة" من قبل التيارات "الدينية المتطرفة"! المشهد هنا اعتدل بعض الشيء؛ إذ بدا الإسلاميون أكثر تحضّراً واحتراماً ل"الدولة المدنية" حين لجؤوا إلى "القضاة" للفصل في خصومتهم مع العلمانيين، فيما بدا العلمانيون أكثر عنفاً وهمجية وعدوانية وكراهية لكل تجليات الدولة المدنية، حين لم يصدر منها ما يرضيهم، وإن كان على حساب استقامة ونزاهة "مؤسسة العدالة". المسألة هنا هي أكبر وأوسع من فكرة الصراع على "الدولة المدنية" بين تيارين؛ فهي محض خبرة وتجربة تمثل جزءاً يسيراً من أزمة أكبر تتعلق بطريقة إدارة الإسلاميين لخلافاتهم مع البيئة العلمانية المعادية لهم، والتي تتمتع بخبرات سياسية وإعلامية تعتمد على التضليل والخداع والمراوغة والميكافيلية السلوكية، وتحتاج إلى "عقلية مبدعة" تتعلم من أخطاء الماضي، وتحيل صراعها مع العلمانيين إلى صراع "مدني"، وليس "دينياً"، وتؤكد على ذلك لتفويت الفرصة على خصم يريد حشرها في خانة "الظلامية"، تمهيداً للإجهاز عليها بسهولة دون أن يتعاطف معها أحد.