د. عبد الحميد الأنصاري - الاتحاد الاماراتية وصل الدكتور نصر حامد أبوزيد مطار الكويت، مساء الثلاثاء 12/15، ليفاجأ بأنه ممنوع من الدخول رغم أنه يحمل تأشيرة صالحة للزيارة، وكان المفكر المصري المثير للجدل والذي يشغل منصب أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة ليدن وأستاذ كرسي ابن رشد للإسلام والعلوم السياسية في "أوترخيت" بهولندا، قادماً من القاهرة، تلبية لدعوة من مركز الحوار للثقافة "تنوير" و"الجمعية الثقافية الاجتماعية النسائية" لإلقاء محاضرتين حول "الإصلاح الديني في الدولة الدستورية" و"قضايا المرأة بين أفق القرآن وأفق التفكير الفقهي"، وشاء حظه العاثر أن يتزامن وصوله وعشية طرح طلب "عدم التعاون" مع رئيس الحكومة والذي كان سيتلوه طرح طلب "عدم الثقة" بوزير الداخلية، أي في وقت حساس كانت الحكومة الكويتية فيه بحاجة إلى أصوات الإسلاميين لعبور جسر "عدم التعاون" و"طرح الثقة" المطروحين، طبقاً لتعبير الأستاذ علي البغلي عن موقف الحكومة منهما ب"آه من بطني... آخ من ظهري". عاد "أبوزيد" أدراجه إلى بلاده -أسِِفاً مستاءً- لكن القضية لم تنته، إذ صمّم منظمو الندوة على استضافته عبر الهاتف المرئي (الفيديو كوفيرانس)، فعقدوا ندوتهم الحاشدة في موعدها، وألقى أبوزيد محاضرته مخترقاً الحواجز والموانع بفضل التكنولوجيا والاتصالات الحديثة، وصفّق الحضور في قاعة "الجمعية الثقافية" طويلاً وتبارت الرموز الثقافية في الدفاع عنه واستنكار قرار المنع ومهاجمة الحكومة، ليتحول موضوع "أبوزيد"، إلى قضية جدلية ساخنة في الساحة الكويتية لتتباين مواقف الكتاب والمثقفين حول قرار منع "أبوزيد" وتنقسم إلى ثلاث توجهات. الأول: يمثله الإسلاميون وحلفاؤهم وهم الذين طالبوا الحكومة بمنع "أبوزيد" من دخول الكويت، بحجة أن أرض الكويت الطاهرة لا تتشرف أن يدنس ترابها من حكم عليه بالردّة في بلده، ودافعوا عن قرار المنع وباركوه، وقالوا: إنه حق مشروع ولا يعدّ مصادرة لحريات الرأي والفكر، لأن ما فعلته الكويت لا يخرج عما تفعله أميركا التي عندها قائمة ب(2500) شخص معظمهم من المفكرين الإسلاميين الممنوعين من دخول أميركا، وإذا كانت الدول الديمقراطية تضع تلك القوائم لحماية مجتمعاتها من "الأفكار المنحرفة" فمن باب أولى أن تفعل الكويت كذلك. الثاني: المدافعون عن مبدأ عام يتعلق بهيبة الدولة، وهم الذين استنكروا رضوخ الحكومة للإسلاميين، وتساءلوا كيف توافق الحكومة على إصدار تأشيرة زيارة ثم تتراجع عنها خوفاً من الإسلاميين؟! وعدّوا ذلك امتداداً لسياسة الخوف التي "يبدو أنها لن تنتهي وستستمر ما دامت الحكومة تخشى من ظل الإسلاميين"، كما رأوها إهانة لدولة المؤسسات وِردّة إلى مرحلة ما قبل الدستور. الثالث: وهو الموقف الذي تبناه معظم الليبراليين بقوة، حيث دافعوا عن "أبوزيد" وهاجموا قرار المنع، وقالوا: إن التضحية بالحريات باتت أيسر وسيلة للكسب السياسي، ولم يكتفوا بذلك، بل كتبوا مقالات يعتذرون فيها ل"أبوزيد"، فقد كتب البغلي مقالة بعنوان: "ما حصل أمر مخجل... نعتذر لك منه يا أبوزيد". وكتب الدكتور أحمد البغدادي مقالة رائعة بعنوان "أخي الدكتور نصر... عذراً" وهي مقالة مؤثرة في النفس، ينعى فيها وضع الحريات الفكرية في الكويت. وللمرء أن يتساءل -متعجباً- فيم فرَح هؤلاء الذين طالبوا بمنع "أبوزيد" من دخول الكويت؟ هل يظنون أنهم حققوا انتصاراً بهذا المنع؟ وما قيمة ما فعلوه، وقد ألقى "أبوزيد" محاضرته ونشرتها الصحف الكويتية والمواقع الإلكترونية؟ ألم يكن الأجدر بهؤلاء أن يكونوا أبعد نظراً وأكثر تسامحاً بمن يعدونه مرتداً؟ ماذا لو حضروا ندوته وناقشوه وبينوا مآخذهم عليه أمام الجمع الحاشد؟ ألم يكن ذلك أجدى وأنفع في حماية المجتمع من أفكاره التي يرونها منحرفة؟! يقولون كيف نسمح لمرتد بدخول الكويت؟ وهل لا يدخل الكويت إلا المؤمنون الأنقياء؟ دعوه يدخل وحاججوه إن كنتم واثقين من طروحاتكم! فيم خوفكم من أفكاره؟ الإسلام دين حوار، يحترم حرية الرأي ويقدّر الاختلاف، لا دين منع وحجب ومصادرة. صحيح أنه صدر حكم ضد أبوزيد بالتفريق بينه وبين زوجته بسبب ما اعتبره الحكم القضائي ردّة في منتصف التسعينيات، إلا أن "أبوزيد" أعلن مراراً بعد الحكم: "أنا مسلم وفخور بأنني مسلم، وأؤمن بالله سبحانه وتعالى وبالرسول عليه الصلاة والسلام وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشرّه، وفخور بانتمائي للإسلام". كما أبدى استعداده للتنازل عن أي اجتهادات ثبت خطؤها بالحجة والبرهان (الأهرام 1995/6/19). وفي حوار مع جريدة "العربي" بتاريخ 2995/6/26 ردّ على أبوزيد اتهامه بإنكار الوحي بأن "القرآن هو كلام الله سبحانه وتعالى مصدره إلهي". ومن أعلن الشهادتين فإسلامه ثابت بيقين، ولا يزول إلا بيقين مثله. صحيح أن عبارات وردت في بعض كتبه رأتها المحكمة خروجاً على الثوابت، إلا أننا يجب أن نتذكر أن الفقهاء قد احتاطوا كثيراً في عدم تكفير المسلم لو أمكن حمل كلامه على محمل واحد لا يُعدّ كفراً صريحاً في مقابل 9 وجوه تحتمل كفراً، فكيف إذا أعلن أنه مسلم ونطق بالشهادتين؟ إن الواجب علينا في هذه الحالة أن نواجهه ونناقشه ونكشف له شبهته، حتى يتبين الرشد من الغيّ. يتناسى هؤلاء الذين يفرحون بمحاربة الفكر بالمنع، أن المفكر الحر في تطور مستمر، فأبوزيد اليوم غيره في التسعينيات حين أصدر "مفهوم النص"، بدليل أنه يقول في بحث ألقاه في إبريل 2006 بالاسكندرية بعنوان "مقاربة جديدة للقرآن: من النص إلى الخطاب"، أنه أصبح يتعامل مع القرآن ليس بوصفه "نصاً" كما فعل في "مفهم النص"، بل بوصفه "خطاباً" للتواصل بين الله والإنسان، وأن عملية "الوحي" عملية تواصل بين الله والنبي محمد عليه الصلاة والسلام، وهي العملية التي أنتجت القرآن، ويفسر ذلك: بأن هذه النقلة لم تحدث في يوم وليلة، بل هي نتيجة تراكم قراءات وتأملات وثمرة حوارات ومشاريع بحثية في أوروبا. أبوزيد يعد نفسه اليوم، مُنظّراً لتجسير الفجوة بين الأصوليين والليبراليين، وقد دفن الماضي وراءه، وأن نكسبه مدافعاً عن الإسلام في الغرب خير لنا.