تكاد المواد المكتوبة عن معالي وزير العدل أو الشيخ أحمد الغامدي أو الشيخ عيسى الغيث من الفقهاء تتصدر مختلف مواقع الإنترنت التي يرتادها كتاب متشددون ومتدينون تقليديون، وتطغى على تلك الكتابات لغة فيها الكثير من الصراخ واللجج والمحاجة غير الواقعية غالبا، وكثيرا ما تنزلق تلك الكتابات باتجاه ألفاظ نابية وسخرية غير مؤدبة، والمفارقة أنها تأتي ممن ينامون ويستيقظون على مقولة إن لحوم العلماء مسمومة، ولا يجوز النيل منهم ولا انتقاص قدرهم، مع أن ما يحدث أصلا لا يحاور الفكرة ولا القضية التي كانت محط آراء هؤلاء المشايخ، ولكنه يناقشهم شخصيا، لدرجة أنك قد تجد ألفاظا لا مكان فيها لنقاش علمي وفقهي، ولكن غياب الحجة هو الذي يسهم في غياب اللغة العاقلة. قريبا من ذلك ما يتعرض له الدكتور سلمان العودة باستمرار، والذي أصبح لحمه شهيا طريا مع أن الرجل نحيل للغاية إلا أنهم استطاعوا أن يوجدوا منه أنصافا وأرباعا، وقد تعرض الشيخ عبدالمحسن العبيكان بدءا من عام 2004 لذات الهجوم غير المؤدب، والذي جاء على خلفية فتواه الشجاعة بأن ما يحدث في العراق من عمليات تسلل وعمليات تفجير وقتل ليس من الجهاد في شيء، بل حتى سماحة المفتي حين تحدث قبل أكثر من أسبوعين داعيا إلى ترك التصنيفات والقول إن فلاناً ليبرالي أو فلان علماني واجه رأيه كثيرا من ذلك التشنج والعتب والدعوة إلى إعادة النظر فيما قال. إذن، يبدو أن الشيخ لدى التقليدين ليس العالم ولا الفقيه ولا الذي يشتغل بعلوم الشرع فقط، ولكنه من يمثل حارسا لبوابة الأعراف والتقاليد الاجتماعية ويحول النص الديني إلى مطية لتلك التقاليد، في الوقت الذي ترتبط فيه قضية التقاليد بحياة وتحولات المجتمعات فتتخلى عنها وتتغير علاقتها بها من زمن إلى آخر، وأبرز دليل على ذلك هو أنه رغم كثرة من تصدوا للرد على الرأي الفقهي للشيخ أحمد الغامدي لم يتجهوا لحوار الأدلة الشرعية التي بنى رأيه عليها، بل كان كلامهم عتبا وكأنه شق صفا أو عهدا، ويخاطبه أحدهم: لماذا تخالف العلماء، ولماذا خرجت عن كلام المشايخ؟ وهي أسئلة تكشف بوضوح كيف أن القضية لدى الفقيه التقليدي لا تقوم فقط على الدليل وأدوات الاستشهاد والصواب والخطأ ولكنها مرتبطة أكثر بحالة ذهنية لا ترى مجالا للعقل ولا للفكر ولا لإعادة النظر والبحث في مختلف القضايا التي سيطرت فيها مواقف واحدة وثابتة. (الثبات) واحدة من أكثر العقد التي تحاصر الذهنية التقليدية، وتجعل من التقليد والاتباع سندا للحكم الفقهي، وهو ما جعل مختلف الفقهاء التقليديين حين يطرحون رأيا من الآراء لا يملكون فضلا فيما ذكروه سوى النقل والحفظ وهي وظيفة آلية لا علاقة لها بالعلم ولا بالمعرفة ولا بالرؤية، ولكن التقليد أصبح يؤدي وظيفة أخرى أكثر حدة وهي أنه بات نوعا من الدفاع عن التوجه وعن الموقف في الحياة العامة السياسية أو الاجتماعية أو المؤسساتية، مما أسهم في تحول كثير من الفقهاء المتشددين إلى ما يشبه الشلة أو الجماعة التي تؤمن بنفس الآراء والمواقف والأحكام وبإعادتها وتكرارها في كل موقف. وهذه الجماعة باتت تتحدث عن إسلام لا يمكن أن يكون صالحا إلا للثقافة المحلية وهو ما يعد ابتسارا للإسلام وقيمته العالمية، فإما أن بقية المسلمين في مختلف أنحاء العالم مسلمون مثلنا، وبالتالي فحياتنا لا تختلف كثيرا عن حياتهم أو أنهم ليسوا كذلك وهذا ما يجانب الصواب ويخالف العقل والواقع. خاصة أن تلك الرؤى التقليدية للفقه دائما ما تدور في نطاق الأحكام المتعلقة بالأخلاق العامة والتي تدور في مجملها حول قضايا المرأة، وما عدا ذلك من قضايا فهو إما أن يمثل قضايا فكرية يبتعد عنها الوعاظ والكثير من الفقهاء التقليديين هم من الوعاظ أو أنها تمر حين ترتبط بالمصلحة، فالبنوك مثلا لم تتعرض لأي ضجة أو إنكار صاخب، لأنها لا ترتبط مباشرة بالأخلاق وبالمرأة. إن (العيب) و(الرجولة) بمعانيها الجلفة المتعنتة وغير المدنية هي التي تمثل أبرز حوافز الفقه المتشدد، الذي يجد نفسه الآن محاطا من ناحيتين: الحركة اليومية للمجتمع التي باتت تفرض عليه أنماطا وصفات لا يراها ذلك الفقيه فانشغل بذمها والتحذير منها، وثانيا: الرؤى الإيجابية والواعية التي يطرحها بعض الفقهاء والتي ينشغل بها الفقهاء التقليديون ردا ومحاجة ربما أكثر من انشغال الناس بها. كان الجميع بانتظار أن تستقبل الأوساط الفقهية مختلف الآراء الفقهية الجديدة استقبالا تفتح به مجالات أوسع للدرس الفقهي وأن تحدث نشاطا بحثيا وفقهيا متميزا، ولكن الذي ظهر هو أن الوسط الفقهي التقليدي يعيش حالة انحباس واستلاب كبرى بدأ يدخله في صدام مع المجتمع والناس، مع أننا نؤمن أن هذا الدين الذي اتسع للملايين من البشر والذي نحمل جزءا من مسؤولية خدمة مقدساته ونفخر بذلك لا يمكن أن يتم اختصاره بهذه الكيفية.