د. حسن بن فهد الهويمل - الجزيرة السعودية ما أكثر ما يتغنى البرمون من ضريع المعانات بالأمثال النوادر والأبيات الشوارد ليختصر بالترنُّم الحزين واقفاً أذلَّ من عيرِ الحيّ والوتدِ، ولقد تكون قصيدة (أبي الطيب المتنبي) التي استهلها بقوله: (عيد بأية حال عدت يا عيد). وبيت أبي خراش الهذلي (تكاثرت الظباء على خراش). من تلك الشواهد المهترئة من كثرة الترديد. مع أن (المتنبي) المتخم ببنات الدهر المتوهمة، لم يكن يهتم بأمر الأمة، ولا يحس بمعاناتها، ولم يعنه من شأنها ما يعانيه المتوادّون المتراحمون، وما كانت حِكمه وأمثاله وشوارد شعره إلا إشباعاً لغروره وجنون العظمة عنده، وما كان (أبو خراش الهذلي) هو الآخر مسكوناً بمصلحة الجماعة، ولكن الشواهد والشوارد تمرُّ كما هي، على أنها من باب التداعيات حين تلم بالإنسان الحرضِ مُدلهماتُ الفتن ومصمياتُ الكوارث. وإذ أنعم الله على الإنسان في هذا العصر المعجز بالانفجار المعرفي والتقنية الدقيقة وثورة الاتصالات فقد أعرض ونأى بجانبه عما يعود على أمته بالخير، فيما أرهقته تلك الإمكانات المذهلة، وشدت أعصابه، وحمّلته ما لا يُحتمل، وألزمته ما لم يكن من شأنه. فكل ما يجري على كوكبنا الذي أصبح قرية متقاربة الأطراف من كوارث وحروب وأوبئة وقهر وظلم يراه هذا الإنسان المعذب رأي العين بكل تفاصيله، كما لو أنه يحدث للتو من بين يديه ومن خلفه، وقد يستجيب له ويتألم به مثلما يتألم المتضررون أنفسهم، ولكنه لا يترجم تلك المعاناة وهذا التداعي بالشكل الذي يسهم بالحل أو يخفف من وطأة المصائب، وهذا الإخفاق فوّت على الأمة فرص الصمود والتصدي والتداعي إلى كلمة سواء تشفي الصدور وتغيظ الأعداء، وتبقي على رسيس القيم المنتهكة. والأمة العربية في راهنها المأزوم لها النصيب الأوفى من هذه الكوارث الجسام والمواقف المحبطة، والأشد مضاضة أن نخبها الذين يلون أمرها لا يحسنون إدارة الأزمات، بل يكاد بعض منهم يسهم في تعقيدها وتصعيدها، وهم في خطاباتهم ومبادراتهم المتصادمة أبعد ما يكونون عن تحقيق الرؤية الإسلامية بجسدية الأمة وتداعيها بالسهر والحمى. وجناية وزيري خارجية (بريطانيا) و(فرنسا) السرية المعروفة باتفاقية (سايكس - بيكو) عام 1916 لم تكن بقسوة ما يفعله العرب بأنفسهم، ولم يكن الوزيران (مارك سايكس) البريطاني و(جورج بيكو) الفرنسي متفائلين بالقدر الكافي، غير أن القابلية لدى التركة العثمانية حققت لدولتيهما أكثر مما يحلمان به، وتولت (الصهيونية) و(الماسونية) كبر التخطيط ورصد التحركات ومكّن لهما مستغربون يقولون ما قالت حذام. ونظرية (القابلية للاستعمار) انقدحت في ذهن المفكر الإسلامي (مالك بن نبي) رحمه الله الذي أتقن الرصد للواقع العربي وأحسن التعامل مع قضاياه المعقدة، وتقوم هذه النظرية على أن طريق تصفية الاستعمار إنما تتم عن طريق تصفية القابلية له، ولقد قوبلت هذه الرؤية من بعض المستغربين بالاستنكار وعدّوها من عوائق اللحاق بركب الحضارة المخب، وإذ خرج الاستعمار التقليدي من الباب، فقد تسلقت الهيمنة الشاملة من المحراب، بحيث تحولت العامة إلى مستهلكة للمادة والنخبة مستهلكة للفكر، وكدنا نصبح المعنيين بتوبيخ (الحطيئة): دَعْ المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنَّك أنت الطاعمُ الكاسي والمجتمع العربي في مطلع القرن الماضي كان من الضعف والتخلف والتفكك قابلاً للاستعمار، غير أنه على مشارف القرن الواحد والعشرين لم تكن قابليته بسبب الضعف أو التخلف فهو على جانب معقول ومقبول من القوة في العدد والعتاد والتقدم النسبي وإن لم يرها المتشائمون والمحبطون من أبنائه، غير أنه لم يحسن استثمارها بالقدر المناسب، ومن ظواهر الارتباك في الاستثمار تشتت الصف العربي وتعدد أهدافه وتعارض مصالحه واختلاف أنظمته وتمزق التفكير ووقوع الأمة المدنفة تحت طائلة حضارة مادية مستكبرة تسوم المستضعفين سوء العذاب، وهذا التشرذم أوقعها في الاضطراب وأفقد قادة الفكر فيها الدقة في التفكير، وهو ما أشار إليه أكثر من مفكر وبالذات (مالك بن نبي) في عدد من كتبه القيمة التي حلل فيها واقع العالم الإسلامي ومارس نقده دون مواربة أو محاباة، ففي كتابيه (تأملات) و(ميلاد مجتمع) إشارات واضحة لهذه التعميمات وتلك الإطلاقات غير السديدة، ووسائل الإعلام المهيمنة والضالعة في تزييف الوعي تعج بالمرجفين والمخذلين والموضعين في الفتنة، وإشكالية المتصدرين للتأسيس والتأصيل الفكري والسياسي والديني أنهم أوزاع يتنازعهم التحفظ على نظرية الغزو والتآمر ويستحوذ عليهم الانبهار والتهافت والتسليم المطلق لحضارة الاستكبار يأتمرون بأمرها ويلتمسون الحلول السحرية لمشاكلهم بالخنوع لها. أو الاعتزال والتعويل على تلك النظرية وتعميمها على كل شيء، وممارسة الإسقاط من خلالها وتحميل الغرب جرائر الجهل والتخلف وتزكية النفس من تبعات ذلك كله. وكلتا الفئتين: المندفعة والممانعة لا تحسنان تفعيل الإمكانيات والتفاعل مع الآخر دون الإخلال بمحققات حضارة الانتماء. وإذ يكون الصراع الفكري من السنن الكونية فإن المتصدين للأفكار حين لا يستحضرون النظريات الثلاث: (الغزو) و(التآمر) و(الصراع) ويتقنون إدارة الأزمات الناتجة عنها يكونون وبالاً على أمتهم وحضارتهم وبعض المشيّعين لنظريتي: (الغزو) و(التآمر) لا يقصدون أخذ الحذر والتحرف أو التحيز، وإنما يتوسلون بهذه الدعوى للتنصل من مسؤولية التخلف. والمتصدون لها قد لا يحسنون التحرف لعمل يمكن من الاستثمار الكريم للمنجز الإنساني والخلوص من الذوبان فيما يخل بأهليتهم وخصوصيتهم، وهذا الداء المستشري أصاب الطائفتين بالشلل وقعد بهما عن قيادة الأمة بحكمة وروية وإنقاذها من مهاوي الذل والهوان، كما أدى في النهاية إلى استفحال الأزمات. وافتقاد الأساليب السليمة للصراع الفكري يؤدي في النهاية إلى ارتباك الأمة، ولقد يكون من بوادر الفشل الذريع اختلال الوحدة الفكرية لدى الأمة، ولو كان اختلالاً واحداً لاحتمل، ولكنها اختلالات كثيرة. والتعددية المنضبطة والاختلاف المحكوم بضوابطه لا يعد من مؤشرات تصدع الوحدة الفكرية، وأي اختلاف لا تحكمه ضوابط وقواعد وأصول ويحيل إلى مرجعية معتبرة يكون مصيره الفشل وذهاب الريح، وما نشاهده ونعايشه من مراء ظاهر وباطن لا يعد من اختلاف الرحمة والتوسيع على الناس، وليس هو من الاختلاف المثري للحضارة المفتق للمعاني المستثمر للنصوص، والقبول بمثله إيغال في العداوة والبغضاء. وداء المشاهد عندنا أن المتصدرين للصراع الفكري والسياسي والديني في مشرقنا العربي لا يحسنون إدارة الصراع وطاقات هذه الأطياف مستنزفة للمراء العقيم، ولأني حديث عهد بفكر (مالك بن نبي) فقد أدركت قدرته على تجسيد الواقع العربي، وبخاصة في كتابيه (شروط النهضة) و(مشكلة الثقافة)، حيث فنّد وباء المشاهد وسماتها ولقد ردَّها إلى علتين موجعتين: إما الاستسلام للمهيمن أو التباهي بالماضي دون اللحاق بالآخر بوصفه المصنم أو المشيطن، على أن الموصوفين بالعلتين يتسمون بالتّضخم الذاتي والتعالم والمكابرة والثرثرة الفارغة من أي معنى، وذلك ما نشاهده ونعايشه، وهو بالفعل من معوقات الخلوص من التبعية والاستهلاك المهين. وفي ظل هذه الظروف المكتنفة بالضعف والجهل والتنازع لا بد من مواجهة الذات بكل ما فيها وما هي عليه. والنقد الصريح فيه مرارة ولكنه لازم متى أصبحت الأمة في الدرك الأسفل من التخلف والضعف والتفكك، ومن يتهيب مواجهة الأمة بما فيها يعش أبد الدهر في مؤخرة الركب، لقد مرت الأمة بخطابات عنيفة، وتعرضت لصدمات موجعة، وكان عليها أن تستفيد من تلك النكسات، وأن تتفادى الوقوع فيما تجاوزت من أخطاء غير أنها كما حليمة تعود في كل مرة إلى عاداتها القديمة، والتاريخ القديم والحديث بما ينطوي عليه من أحداث يعد مدرسة لمن ألقى السمع وهو شهيد، غير أن المتصدرين للصراع لا يدرون ما الأحداث ولا العبر وذلك مكمن الفشل الذريع. والساحة العربية لم تكن كسابق عهدها تصارع الاستثمار التقليدي المعروف بثكناته ومناديبه وتجد التأييد من كتل سياسية وبرلمانية ودول حرة تحترم حقوق الإنسان وترفض الظلم والاستكبار. لقد أُفرغت الأمة من محتوياتها القومية والدينية ومُلئت بالخوف من بعضها وسلبت السيادة وتداعت عليها الأيدي من كل جانب وهمّ بها من لا يدفع عن نفسه لانتزاع حصته من الغنائم، وما زادتها تلك التحديات إلا إمعاناً في التبلد والتردد.. وما يجري على أرضها من حروب مجانية ونزاعات على أمور متوهمة وصراعات يوحى إليهم أنها طائفية أو إقليمية أو عرقية وما هي إلا تنفيذ بالإنابة المجانية للعب سياسية قذرة، كل ذلك دليل على هرولتها باتجاه الهاوية، ونخبها الذين يصطرعون فيما بينهم منذ قرن من الزمن حول المرأة والحداثة والسلفية و(الليبرالية) و(الديموقراطية) يعيدون تاريخ فقهاء بيزنطة، إنها القابلية للاستعمار شئنا أم أبينا. ومهما تفرقت بنا السبل فإن الأمة المدنفة لن يصلحها إلا ما صلح به أو لها ولكن أين الطريق؟